الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ } * { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي }

التفت موسى بتوجيه الخطاب إلى السامريّ الذي كان سبباً في إضلال القوم، فالجملة ناشئة عن قول القومفكذلك ألقى السامريّ فأخرج لهم عجلاً } طه 88 الخ، فهي ابتداء خطاب. ولعل موسى لم يغلظ له القول كما أغلظ لهارون لأنه كان جاهلاً بالدّين فلم يكن في ضلاله عجب. ولعل هذا يؤيد ما قيل إن السامريّ لم يكن من بني إسرائيل ولكنه كان من القِبط أو من كِرمان فاندسّ في بني إسرائيل. ولما كان موسى مبعوثاً لبني إسرائيل خاصة ولفرعون وملئه لأجل إطلاق بني إسرائيل، كان اتّباع غير الإسرائيليين لشريعة موسى أمراً غير واجب على غير الإسرائيليين ولكنه مرغّب فيه لما فيه من الاهتداء، فلذلك لم يعنفه موسى لأنّ الأجدر بالتعنيف هم القوم الذين عاهدوا الله على الشريعة.ومعنى { ما خطبك } ما طَلبك، أي ماذا تخطب، أي تطلب، فهو مصدر. قال ابن عطية «وهي كلمة أكثر ما تستعمل في المَكاره، لأن الخطب هو الشأن المكروه. كقوله تعالىفما خَطبكم أيها المرسلون } الذاريات 31، فالمعنى ما هي مصيبتك التي أصبت بها القوم وما غرضك مما فعلت.وقوله { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِه } إلى قوله { فَنَبَذْتُهَا } إن حُملت كلمات بَصُرت بما لم يبصروا به. وقبضت قبضة، وأثر، ونبذتها على حقائق مدلولاتها كما ذهب إليه جمهور المفسرين كان المعنى أبصرت ما لم يُبصروه، أي نظرت ما لم ينظروه، بناء على أن بَصُرت، وأبصرت كلاهما من أفعال النظر بالعين، إلا أن بصُر بالشيء حقيقته صار بصيراً به أو بصيراً بسببه، أي شديد الإبصار، فهو أقوى من أبصرت، لأنّه صيغ من فَعُل ــــ بضم العين ــــ الذي تشتق منه الصفات المشبهة الدالة على كون الوصف سجية، قال تعالىفبصرت به عن جنب } في سورة القصص 11.ولما كان المعنى هنا جليّاً عن أمر مرئيّ تعيّن حمل اللفظ على المجاز باستعارة بصُر الدال على قوّة الإبصار إلى معنى العِلم القويّ بعلاقة الإطلاق عن التقييد، كما في قوله تعالىفبصرك اليوم حديد } ق 22، وكما سميت المعرفة الراسخة بَصيرة في قولهأدعوا إلى الله على بصيرة } يوسف 108. وحكى في «لسان العرب» عن اللحياني إنه لبصير بالأشياء، أي عالم بها، وبصرت بالشيء علمته. وجعل منه قوله تعالى { بصرت بما لم يبصروا به } ، وكذلك فسرها الأخفش في نقل لسان العرب وأثبته الزجاج. فالمعنى علمتُ ما لم يعلموه وفطنت لما لم يفطنوا له، كما جعله في «الكشاف» أول وجهين في معنى الآية. ولذلك طريقتان إما جعل بصُرت مجازاً، وإما جعله حقيقة.وقرأ الجمهور { يبصروا } بتحتية على أنه رافع لضمير الغائب. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بفوقية على أنه خطاب لموسى ومن معه.والقَبضة بفتح القاف الواحدة من القَبض، وهو غلق الراحة على شيء، فالقبضة مصدر بمعنى المفعول، وضد القبض البسط.

السابقالتالي
2