الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } * { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ } * { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذٰلِكَ جَزَآءُ مَن تَزَكَّىٰ } * { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ }

هذه الجمل معترضة بين حكاية قصة السحرة وبين ذكر قصّة خروج بني إسرائيل، ساقها الله موعظة وتأييداً لمقالة المؤمنين من قوم فرعون. وقيل هي من كلام أولئك المؤمنين. ويبعده أنه لم يحك نظيره عنهم في نظائر هذه القصّة.والمجرم فاعل الجريمة، وهي المعصية والفعل الخبيث. والمجرم في اصطلاح القرآن هو الكافر، كقوله تعالىإن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون } المطففين 29.واللام في { لَهُ جَهَنَّمَ } لامُ الاستحقاق، أي هو صائر إليها لا محالة، ويكون عذابه متجدّداً فيها فلا هو ميت لأنّه يُحِس بالعذاب ولا هو حيّ لأنه في حَالةٍ الموتُ أهون منها، فالحياة المنفية حياة خاصة وهي الحياة الخالصة من العذاب والآلام. وبذلك لم يتناقض نفيها مع نفي الموت، وهو كقول عبّاس بن مرداس
وقد كنتُ في الحرب ذَا تُدْرَإٍ فلم أُعْطَ شيئاً ولم أُمنع   
وليس هذا من قبيل قولهإنها بقرة لا فارض ولا بكر } البقرة 68 ولا قولهزيتونة لا شرقية ولا غربية } النور 35.وأما خلود غير الكافرين في النّار من أهل الكبائر فإن قوله { لا يَمُوتُ فِيهَا ولا يَحْيَىٰ } جعلها غير مشمولة لهذه الآية. ولها أدلّة أخرى اقتضت خلود الكافر وعدم خلود المؤمن العاصي. ونازَعَنَا فيها المعتزلة والخوارج. وليس هذا موضع ذكرها وقد ذكرناها في مواضعها من هذا التفسير.والإتيان باسم الإشارة في قوله { فأولئك لهم الدرجات } للتنبيه على أنهم أحرياء بما يذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما سبق اسمَ الإشارة.وتقدم معنى { عَدْن } وتفسير { تجري من تحتها الأنهار } في قوله تعالىوعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن } في سورة براءة 72.والتزكّي التطهر من المعاصي.افتتاح الجملة بحرف التحقيق للاهتمام بالقصة ليلقي السامعون إليها أذهانهم. وتغيير الأسلوب في ابتداء هذه الجملة مؤذن بأن قصصاً طويت بين ذكر القصتين، فلو اقتصر على حرف العطف لتوهّم أن حكاية القصة الأولى لم تزل متصلة فتُوهم أن الأمر بالخروج وقع موالياً لانتهاء مَحْضَر السحرة، مع أن بين ذلك قصصاً كثيرة ذُكرت في سورة الأعراف وغيرها، فإن الخروج وقع بعد ظهور آيات كثيرة لإرهاب فرعون كلما همّ بإطلاق بني إسرائيل للخروج. ثمّ نكَل إلى أن أذن لهم بأخَرَة فخرجوا ثمّ ندم على ذلك فأتبعهم.فجملة { ولقَدْ أوْحَيْنَا إلى مُوسَىٰ } ابتدائية، والواو عاطفة قصة على قصة وليست عاطفة بعض أجزاء قصة على بعض آخر.و { اسْرِ } أمرٌ من السُرَى بضم السين وفتح الراء وتقدّم في سورة الإسراء أنه يقال سَرَى وأسرى. وإنما أمره الله بذلك تجنّباً لنكول فرعون عليهم. والإضافة في قوله { بِعِبَادي } لتشريفهم وتقريبهم والإيماءِ إلى تخليصهم من استعباد القبط وأنهم ليسُوا عبيداً لفرعون.والضرب هنا بمعنى الجَعْل كقولهم ضَرَب الذهبَ دنانير.

السابقالتالي
2