الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَىٰ } * { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ }

تفريع التولّي وجمع الكيد على تعيين موسى للموعد إشارة إلى أن فرعون بادر بالاستعداد لهذا الموعد ولم يُضعِ الوقت للتهيئة له.والتولّي الانصراف، وهو هنا مستعمل في حقيقته، أي انصرف عن ذلك المجلس إلى حيثُ يُرسل الرسل إلى المدائن لجمع من عُرفوا بعلم السحر، وهذا كقوله تعالى في سورة النازعات 22، 23ثم أدبر يسعى فحشر فنادى } ومعنى جمع الكيد تدبير أسلوب مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأنّ موسى ليس على شيء.وهذا أسلوب قديم في المناظرات أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجّة خصمه بكلّ وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير، ومباداته بما يفتّ في عضده ويشوش رأيه حتّى يذهب منه تدبيره.فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد الرأي. واستقصاء ترتيب الأمر، كقولهفأجمعوا أمركم } يونس 71، أي جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون المعنى فجمع أهل كيده، أي جمع السحرة، على حد قوله تعالىفجمع السحرة لميقات يوم معلوم } الشعراء 38.والكَيْد إخفاء ما به الضر إلى وقت فعله. وقد تقدّم عند قوله تعالىإن كيدي متين } في سورة الأعراف 183.ومعنى { ثُمَّ أَتَّىٰ } ثمّ حضر الموعدَ، وثم للمهلة الحقيقية والرتبية معاً، لأن حضوره للموعد كان بعد مضي مهلة الاستعداد، ولأن ذلك الحضور بعد جمع كيده أهمّ من جمع الكيد، لأنّ فيه ظهور أثر ما أعدّه.وجملة { قَالَ لَهُم مُوسَىٰ } مستأنفة استئنافاً بيانياً، لأنّ قوله { ثُمَّ أَتَىٰ } يثير سؤالاً في نفس السامع أن يقول فماذا حصل حين أتى فرعون ميقات الموعد. وأراد موسى مفاتحة السحرة بالموعظة.وضمير { لَهُم } عائد إلى معلوم من قوله { فلنأتينك بسحر مثله } أي بأهل سحر، أو يكون الخطاب للجميع، لأنّ ذلك المحضر كان بمرأى ومسمع من فرعون وحاشيته، فيكون معاد الضمير ما دلّ عليه قوله { فَجَمعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتَىٰ } ، أي جمع رجال كيده. والخطاب بقوله { وَيْلَكُمْ } يجوز أن يكون أراد به حقيقة الدعاء، فيكون غير جار على ما أمر به من إلانة القول لفرعون إما لأن الخطاب بذلك لم يكن مواجهاً به فرعون بل واجه به السحرةَ خاصة الذين اقتضاهم قوله تعالى { فَجَمعَ كَيْدَهُ } ، أي قال موسى لأهل كيد فرعون وإما لأنه لما رأى أن إلانة القول له غير نافعة، إذ لم يزل على تصميمه على الكفر، أغلظ القول زجراً له بأمر خاص من الله في تلك الساعة تقييداً لمطلق الأمر بإلانة القول، كما أذن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - بقولهأذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا } الآيات في سورة الحج 39 وإما لأنه لما رأى تمويههم على الحاضرين أنّ سحرهم معجزة لهم من آلهتهم ومن فرعون ربّهم الأعلى وقالوابعزة فرعون إنا لنحن الغالبون } الشعراء 44 رأى واجباً عليه تغيير المنكر بلسانه بأقصى ما يستطيع، لأن ذلك التغيير هو المناسب لمقام الرسالة.

السابقالتالي
2