الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } * { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ }

هذه جمل ثلاث معترضة في أثناء قصة موسى.فالجملة الأولى منها مستأنفة ابتدائية على عادة القرآن من تفنّن الأغراض لتجديد نشاط الأذهان. ولا يحتمل أن تكون من كلام موسى إذ لا يناسب ذلك تفريع قوله { فأخْرَجْنَا بهِ أزواجاً }. فقوله { الذي جَعَلَ لكمُ الأرضَ مِهَاداً } خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الذي جعل لكم الأرض مهاداً، والضمير عائد إلى الربّ المفهوم منربي } طه 52، أي هو ربّ موسى.وتعريف جزأي الجملة يُفيد الحصر، أي الجاعل الأرض مهاداً فكيف تعبدون غيره. وهذا قصر حقيقي غير مقصود به الرد على المشركين ولكنّه تذكير بالنّعمة وتعريض بأن غيره ليس حقيقاً بالإلهية.وقرأ الجمهور { مِهاداً } بكسر الميم وألففٍ بعد الهاء وهو اسم بمعنى الممهُود مثل الفراش واللّباس. ويجوز أن يكون جمع مَهْد، وهو اسم لما يمهد للصّبيّ، أي يوضع عليه ويحمل فيه، فيكون بوزن كِعاب جمعاً لكَعب. ومعنى الجمع على اعتبار كثرة البقاع.وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف { مَهْداً } بفتح الميم وسكون الهاء ، أي كالمهد الذي يمهد للصبي، وهو اسم بمصدر مَهدَه، على أنّ المصدر بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق، ثمّ شاع ذلك فصار اسماً لما يمهد.ومعنى القراءتين واحد، أي جعل الأرض ممهودة مسهلة للسّير والجلوس والاضطجاع بحيث لا نُتوء فيها إلاّ نادراً يمكن تجنبه، كقولهوالله جعل لكم الأرض بساطاً لتسلكوا منها سُبلاً فجاجاً } نوح 19، 20. { وسَلَكَ } فعل مشتق من السُلوك والسّلْك الذي هو الدخول مجتازاً وقاطعاً. يقال سلك طريقاً، أي دخله مجتازاً. ويستعمل مجازاً في السّير في الطريق تشبيهاً للسائر بالشيء الداخل في شيء آخر. يقال سلك طريقاً. فحق هذا الفعل أن يتعدّى إلى مفعول واحد وهو المدخول فيه، ويستعمل متعدياً بمعنى أسلك. وحقه أن يكون تعديه بهمزة التعدية فيقال أسلك المسمار في اللّوح، أي جعله سالكاً إياه، إلاّ أنّه كثر في الكلام تجريده من الهمزة كقوله تعالىنسلكه عذاباً صعداً } الجنّ 17. وكثر كون الاسم الذي كان مفعولاً ثانياً يصير مجروراً بـــ في كقوله تعالىما سَلَكَكُم في سَقَر } المدثر 42 بمعنى أسلككم سقر. وقولهكذلك سلَكْنَاه في قلوب المجرمين } في سورة الشعراء 200، وقولهألم تر أنّ الله أنزل من السّماء ماء فسَلَكه ينابيع في الأرض } في سورة الزمر 21. وقال الأعشى
كما سلك السّكيّ في الباب فيْتَق   
أي أدخل المسمارَ في الباب نجارٌ، فصار فعل سلك يستعمل قاصراً ومتعدياً.فأما قوله هنا { وسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } فهو سَلك المتعدي، أي أسلك فيها سبلاً، أي جعل سبلاً سالكة في الأرض، أي داخلة فيها، أي متخللة. وذلك كناية عن كثرتها في جهات الأرض.والمراد بالسبل كلّ سبيل يمكن السير فيه سواء كان من أصل خلقة الأرض كالسهول والرمال، أو كان من أثر فعل النّاس مثل الثنايا التي تكرر السير فيها فتعبدت وصارت طرقاً يتابعُ الناس السير فيها.

السابقالتالي
2 3