الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ } * { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } * { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى } * { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } * { لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ ٱلثَّرَىٰ }

افتتحت السورة بملاطفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنّ الله لم يرد من إرساله وإنزال القرآن عليه أن يشقى بذلك، أي تصيبه المشقّة ويشده التعب، ولكن أراد أن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وفي هذا تنويه أيضاً بشأن المؤمنين الذين آمنوا بأنهم كانوا من أهل الخشية ولولا ذلك لما ادّكروا بالقرآن.وفي هذه الفاتحة تمهيدٌ لما يرد من أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالاضطلاع بأمر التبليغ، وبكونه من أولي العزم مثل موسى - عليه السلام - وأن لا يكون مفرطاً في العزم كما كان آدم - عليه السلام - قبل نزوله إلى الأرض. وأدمج في ذلك التنويه بالقرآن لأن في ضمن ذلك تنويهاً بمن أنزل عليه وجاء به.والشقاء فرط التعب بعمل أو غمّ في النفس، قال النابغة
إلاّ مقالةَ أقوام شَقِيت بهم كانت مقالتهم قَرعا على كبدي   
وهمزة الشقاء مُنقلبة عن الواو. يقال شَقاء وشَقاوة ــــ بفتح الشين ــــ وشِقوة ــــ بكسرها.ووقوع فعل { أنْزَلْنَا } في سياق النفي يقتضي عموم مدلوله، لأنّ الفعل في سياق النفي بمنزلة النكرة في سياقه، وعموم الفعل يستلزم عموم متعلقاته من مفعول ومجرور. فيعمّ نفي جميع كلّ إنزال للقرآن فيه شقاء له، ونفي كل شقاء يتعلق بذلك الإنزال، أي جميع أنواع الشّقاء فلا يكون إنزال القرآن سبباً في شيء من الشقاء للرسول - صلى الله عليه وسلم -.وأول ما يراد منه هنا أسف النبي - صلى الله عليه وسلم - من إعراض قومه عن الإيمان بالقرآن. قال تعالىفلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً } الكهف 6.ويجوز أن يكون المراد ما أرسلناك لتخِيب بل لنؤيدك وتكون لك العاقبة.وقوله { إلاَّ تَذْكِرَةً } استثناء مفرّغ من أحوال للقرآن محذوفة، أي ما أنزلنا عليك القرآن في حال من أحوال إلا حال تذكرة فصار المعنى ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وما أنزلناه في حال من الأحوال إلا تذكرة. ويدل لذلك تعقيبه بقوله { تنزيلاً ممَّن خَلَق الأرضَ } الذي هو حال من القرآن لا محالة، ففعل { أنْزَلنا } عامل في { لِتَشْقَى } بواسطة حرف الجرّ، وعامل في { تَذْكِرة } بواسطة صاحب الحال، وبهذا تعلم أن ليس الاستثناء من العلّة المنفية بقوله { لِتَشْقَى } حتى تتحير في تقويم معنى الاستثناء فتفزع إلى جعله منقطعاً وتقع في كُلف لتصحيح النّظم.وقال الواحدي في «أسباب النزول» «قال مقاتل قال أبو جهل والنضر بن الحارث وزاد غير الواحدي الوليد بن المغيرة، والمطعِم بنَ عديّ للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنك لتشقى بترك ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهاده، فأنزل الله تعالى { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } الآية، وليس فيه سند.

السابقالتالي
2 3