الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } * { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } * { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } * { إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ } * { وَٱصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي }

جملة { ولقد مَنَنَّا عليْكَ } معطوفة على جملةقد أوتيتَ سُؤْلك } طه 36 لأنّ جملة { قد أوتيت سؤلك } تتضمن منّة عليه، فعطف عليها تذكير بمنّة عليه أخرى في وقت ازدياده ليعلم أنّه لما كان بمحل العناية من ربّه من أوّل أوقات وجوده فابتدأه بعنايته قبل سؤاله فعنايته به بعدَ سؤاله أحْرى، ولأن تلك العناية الأولى تمهيد لما أراد الله به من الاصطفاء والرسالة، فالكرم يقتضي أن الابتداء بالإحسان يستدعي الاستمرار عليه. فهذا طمأنة لفؤاده وشرح لصدره ليعلم أنه سيكون مؤيّداً في سائر أحواله المستقبلة، كقوله تعالى لمحمدولسوف يعطيك ربك فترضى ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى } الضحى 5 ــــ 8.وتأكيد الخبر بلام القسم و قد لتحقيق الخبر، لأنّ موسى - عليه السلام - قد علم ذلك، فتحقيق الخبر له تحقيق للازمه المراد منه، وهو أن عناية الله به دائمة لا تنقطع عنه زيادة في تطمين خاطره بعد قوله تعالىقد أوتيت سؤلك } طه 36.والمَرّة فَعلة من المرور، غلبت على معنى الفَعلة الواحدة من عمل معيّن يعرف بالإضافة أو بدلالة المقام. وقد تقدمت عند قوله تعالىوهم بدأوكم أول مرة } في سورة براءة 13. وانتصاب مَرَّةً } هنا على المفعولية المطلقة لفعل { مَنَنَّا } ، أي مرّة من المنّ. ووصفها بـ { أخرى } هنا باعتبار أنها غير هذه المنّة.و { إذْ } ظرف للمنّة.والوحي، هنا وحي الإلهام الصادق. وهو إيقاع معنى في النفس ينثلج له نفس الملقى إليه بحيث يجزم بنجاحه فيه وذلك من توفيق الله تعالى. وقد يكون بطريق الرؤيا الصالحة التي يقذف في نفس الرائي أنها صدق.و { ما يُوحَىٰ } موصول مفيد أهمية ما أوحي إليها. ومفيد تأكيد كونه إلهاماً من قبل الحق.و { أنِ } تفسير لفعل { أوْحَيْنَا } لأنه معنى القول دون حروفه أو تفسير لـ { يوحى }.والقذف أصله الرمي، وأطلق هنا على الوضع في التابوت، تمثيلاً لهيئة المُخفى عمله، فهو يسرع وضعه من يده كهيئة من يقذف حجراً ونحوه.والتابوت الصندوق. وتقدّم عند قوله تعالىإن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } في سورة البقرة 248.واليمّ البحر، والمراد به نهر النّيل.والساحل الشاطىء، ولام الأمر في قوله { فَلْيُلْقِهِ } دالة على أمر التكوين، أي سخرنا اليَمّ لأن يلقيه بالساحل، ولا يبتعد به إلى مكان بعيد، والمراد ساحل معهود، وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة.والضمائر الثلاثة المنصوبة يجوز أن تكون عائدة إلى موسى لأنّه المقصود وهو حاضر في ذهن أمّه الموحى إليها، وقَذفه في التّابوت وفي اليَمّ وإلقاؤه في الساحل كلها أفعال متعلّقة بضميره، إذ لا فرق في فعل الإلقاء بين كونه مباشراً أو في ضمن غيره، لأنه هو المقصود بالأفعال الثلاثة. ويجوز جعل الضميرين الأخيرين عائدين إلى التابوت ولا لبس في ذلك.وجزم { يَأْخُذْهُ } في جواب الأمر على طريقة جزم قوله

السابقالتالي
2 3 4