الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ } * { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ أَعْمَىٰ } * { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } * { قَالَ كَذٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } * { وَكَذٰلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ }

استئناف بياني، لأنّ الإخبار عن آدم بالعصيان والغواية يثير في نفس السامع سؤالاً عن جزاء ذلك. وضمير { قال } عائد إلىربه } طه 121 من قوله { وعصى آدم ربه } والخطاب لآدم وإبليس.والأمر في { اهبطا } أمر تكوين، لأنهما عاجزان عن الهبوط إلى الأرض إلاّ بتكوين من الله إذ كان قرارهما في عالم الجنة بتكوينه تعالى.و { جميعاً } يظهر أنه اسم لمعنى كل أفرادِ ما يوصف بجميع، وكأنه اسم مفرد يدل على التعدد مثل فريق، ولذلك يستوي فيه المذكر وغيره والواحد وغيره، قال تعالىفكيدوني جميعاً } هود 55 ونصبه على الحال، وهو هنا حال من ضمير { اهبطا }.وجملة { بعضكم لبعض عدوٌّ } حال ثانية من ضمير { اهْبِطَا }. فالمأمور بالهبوط من الجنة آدم وإبليس وأما حواء فتبع لزوجها.والخطاب في قوله { بَعْضُكُم } خطاب لآدم وإبليس. وخوطبا بضمير الجمع لأنه أريد عداوة نسليهما، فإنهما أصلان لنوعين نوع الإنسان ونوع الشيطان.تفريع جملة { فإمَّا يأتينَّكم مني هُدىً } على الأمر بالهبوط من الجنة إلى الدنيا إنباءٌ بأنهم يستقبلون في هذه الدنيا سيرة غير التي كانوا عليها في الجنة لأنّهم أُودِعوا في عالَم خليط خيره بشرّه، وحقائقه بأوهامه، بعد أن كانوا في عالم الحقائق المحضة والخير الخالص، وفي هذا إنباء بطور طرأ على أصل الإنسان في جبلته كان مُعَدّاً له من أصل تركيبه.والخطاب في قوله { يَأتِيَنَّكُم } لآدم باعتبار أنه أصل لنوع الإنسان إشعاراً له بأنه سيكون منه جماعة، ولا يشمل هذا الخطاب إبليس لأنه مفطور على الشر والضلال إذ قد أنبأه الله بذلك عند إبايته السجود لآدم، فلا يكلفه الله باتباع الهدى، لأن طلب الاهتداء ممن أعلمه الله بأنه لا يزال في ضلال يعد عبثاً ينزه عنه فعل الحكيم تعالى. وليس هذا مثلَ أمر أبي جهل وأضرابه بالإسلام إذ أمثال أبي جهل لا يوقَن بأنهم لا يؤمنون، ولم يرد في السنّة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا الشيطان للإسلام ولا دعا الشياطين، وأما الحديث الذي رواه الدارَقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما منكم من أحد إلا وقد وُكل به قرينه من الجنّ، قالوا وإياك يا رسول الله؟ قال وإياي ولكن الله أعانني فأسْلَمَ " فلا يقتضي أنه دعاه للإسلام ولكن الله ألهم قرينه إلى أن يأمره بالخير، والمراد بالقرين شيطان قرين، والمراد بالهدى الإرشاد إلى الخير.وفي هذه الآية وصاية الله آدم وذريته باتباع رسل الله والوحي الإلهي، وبذلك يعلم أن طلب الهدى مركوز في الجبلة البشريّة حتى قال كثير من علماء الإسلام إن معرفة الإله الواحد كائنة في العقول أو شائعة في الأجيال والعصور. وإنه لذلك لم يُعذر أهل الشرك في مُدد الفِتر التي لم تجىء فيها رسل للأمم.

السابقالتالي
2 3