الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ ٱلأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَـٰنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } * { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } * { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } * { وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ ٱلْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } * { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ ٱلصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً }

جملة { يتبعون الدّاعي } في معنى المفرعة على جملةيَنسِفُهَا } طه 105. و { يَوْمَئِذٍ } ظرف متعلق بــــ { يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ }. وقدم الظرف على عامله للاهتمام بذلك اليوم، وليكون تقديمه قائماً مقام العَطف في الوصل، أي يتبعون الداعي يوم ينسف ربّك الجبال، أي إذا نسفت الجبال نودوا للحشر فحضروا يتبعون الداعي لذلك.والداعي، قيل هو المَلك إسرافيل ــــ عليه السلام ــــ يدعو بنداء التسخير والتكوين، فتعود الأجساد والأرواح فيها وتهطع إلى المكان المدعوّ إليه. وقيل الداعي الرسول، أي يتبع كلّ قوم رسولهم.و { لا عِوَجَ لَهُ } حال من { الدَّاعِيَ }. واللام على كلا القولين في المراد من الداعي للأجْل، أي لا عوج لأجل الداعي، أي لا يروغ المدعوون في سيرهم لأجل الداعي بل يقصدون متجهين إلى صَوبه. ويجيء على قول من جعل المراد بالداعي الرسول أن يرَاد بالعوج الباطل تعريضاً بالمشركين الذين نسبوا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - العِوج كقولهمإن تتبعون إلاّ رجلاً مسحوراً } الفرقان 8، ونحو ذلك من أكاذيبهم، كما عُرض بهم في قوله تعالىالذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً } الكهف 1.فالمصدر المنفي أريد منه نفي جنس العوج في اتباع الداعي، بحيث لا يسلكون غير الطريق القويم، أو لا يسلك بهم غير الطريق القويم، أو بحيث يعلمون براءة رسولهم من العِوج.وبيْن قولهلا ترى فيها عوجاً } طه 107 وقوله { لا عِوَج له } مراعاة النظير، فكما جعل الله الأرض يومئذ غير معوجة ولا ناتئة كما قالفإذا هم بالساهرة } النازعات 14 كذلك جعل سير النّاس عليها لا عوج فيه ولا مراوغة.والخشوع الخضوع، وفي كلّ شيء من الإنسان مظهر من الخشوع فمظهر الخشوع في الصوت الإسرار به، فلذلك فرع عليه قوله { فلا تسمع إلاّ همساً }.والهمس الصوت الخفيّ.والخطاب بقوله { لا ترى فيها عوجاً } وقوله { فلا تسمع إلا همساً } خطاب لغير معين، أي لا يرى الرائي ولا يسمع السامع.وجملة { وخَشَعَتِ الأصوَاتُ } في موضع الحال من ضمير { يتّبعون } وإسناد الخشوع إلى الأصوات مجاز عقلي، فإن الخشوع لأصحاب الأصوات أو استعير الخشوع لانخفاض الصوت وإسراره، وهذا الخشوع من هول المقام.وجملة { يومئذ لا تنفع الشفاعة } كجملة { يومئذ يتبعون الداعي } في معنى التفريع على { وخشعت الأصوات للرحمٰن } ، أي لا يتكلّم الناس بينهم إلاّ همساً ولا يجرؤون على الشفاعة لمن يهمهم نفعه. والمقصود من هذا أن جلال الله والخشية منه يصدان عن التوسط عنده لنفع أحد إلاّ بإذنه، وفيه تأييس للمشركين من أن يجدوا شفعاء لهم عند الله.واستثناء { مَن أذِنَ لهُ الرَّحمٰنُ } من عموم الشفاعة باعتبار أنّ الشفاعة تقتضي شافعاً، لأن المصدر فيه معنى الفعل فيقتضي فاعلاً، أي إلا أن يشفع من أذن له الرحمان في أن يشفع، فهو استثناء تام وليس بمفرغ.

السابقالتالي
2 3