الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَذٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } * { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وِزْراً } * { خَالِدِينَ فِيهِ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً }

جملة مستأنفة تذييلية أفادت التنويه بقصّة رسالة موسى وما عقبها من الأعمال التي جرت مع بني إسرائيل ابتداء من قولهوهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً } طه 9، 10، أي مثل هذا القصص نقصّ عليك من أنباء القرون الماضية. والإشارة راجعة إلى القصة المذكورة.والمراد بقوله { نَقُصُّ } قَصصنا، وإنما صيغ المضارع لاستحضار الحالة الحسنة في ذلك القصص.والتشبيه راجع إلى تشبيهها بنفسها كناية عن كونها إذا أريد تشبيهها وتقريبها بما هو أعرف منها في بابها لم يجد مُريد ذلك طريقاً لنفسه في التشبيه إلا أن يشبهها بنفسها، لأنها لا يفوقها غيرها في بابها حتى تقرَّب به، على نحو ما تقدم في قوله تعالىوكذلك جعلناكم أمة وسطاً } في سورة البقرة 143، ونظائره كثيرة في القرآن.و مِن في قوله { مِنْ أنْبَاءِ ما قَدْ سَبَقَ } تبعيضية، هي صفة لمحذوف تقديره قصصاً من أنباء ما قد سبق. ولك أن تجعل من اسماً بمعنى بعض، فتكون مفعول { نقصّ }.والأنباء الأخبار. وما الموصولة ما صدقها الأزمان، لأنّ الأخبار تضاف إلى أزمانها، كقولهم أخبار أيام العرب، والقرون الوسطى. وهي كلها من حقها في الموصولية أن تعرف بما الغالبة في غير العاقل. ومعلوم أن المقصود ما فيها من أحوال الأمم، فلو عرفت بمَن الغالبة في العقلاء لصح ذلك وكل ذلك واسع.وقوله { وقَدْ ءَاتينٰاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } إيماء إلى أن ما يقص من أخبار الأمم ليس المقصود به قطْع حصة الزمان ولا إيناس السامعين بالحديث إنما المقصود منه العبرة والتذكرة وإيقاظ لبصائر المشركين من العرب إلى موضع الاعتبار من هذه القصة، وهو إعراض الأمة عن هدي رسولها وانصياعها إلى تضليل المضللين من بينها. فللإيماء إلى هذا قال تعالى { وقد آتيناك من لدنّا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وِزراً خالدين فيه }.وتنكير { ذِكراً } للتعظيم، أي آتيناك كتاباً عظيماً. وقوله { مِن لَّدُنَّا } توكيد لمعنى { ءَاتَينٰكَ } وتنويه بشأن القرآن بأنه عطية كانت مخزونة عند الله فخص بها خير عباده.والوِزر الإثم. وجعل محمولاً تمثيل لملاقاة المشقة من جراء الإثم، أي من العقاب عنه. فهنا مضاف مُقدر وقرينته الحال في قوله { خٰلِدِينَ فِيهَا } ، وهو حال من اسم الموصول أو الضمير المنصوب بحرف التوكيد، وما صدقهما، متّحد وإنما اختلف بالإفراد والجمع رعياً لِلَفظ مَن مرةً ولمدلولها مرة. وهو الجمع المعرضون. فقال { من أعرَض } ثم قال خَالدين.وجملة { وسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القِيٰمَةِ حِمْلاً } حال ثانية، أي ومسوئين به. وسَاء هنا هو أحد أفعال الذم مثل بئس. وفاعل { ساء } ضمير مستتر مُبهم يفسره التمييز الذي بعده وهو { حِملاً }. والحِمل - بكسر الحاء - اسم بمعنى المَحمول كالذِّبح بمعنى المذبوح. والمخصوص بالذم محذوف لدلالة لفظ { وِزراً } عليه. والتقدير وساء لهم حملاً وِزرهم، وحذف المخصوص في أفعال المدح والذم شائع كقوله تعالىووهبنا لداوود سليمان نعم العبد إنه أواب } ص 30 أي سليمان هو الأواب.واللاّم في قوله { وسَآءَ لَهُمْ } لام التبيين. وهي مبيّنة للمفعول في المعنى، لأن أصل الكلام ساءهم الحِمل، فجيء باللام لزيادة تبيين تعلق الذم بحمله، فاللاّم لبيان الذين تعلّق بهم سوء الحِمل.والحِمل ــــ بكسر الحاء ــــ المحمول مثل الذبح.