الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ }

أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه، فأعيد الأسلوب القديم وهو العطف بإعادة لفظ إذ في أول القصص. وأظهر هنا لفظ { بني إسرائيل } وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوقيفهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالىيا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } البقرة 40 الآية. ثانيهما أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزانوإذ نجيناكم من آل فرعون } البقرة 49 أو على وزانثم اتخذتم العجل من بعده } البقرة 51. وقوله { ميثاق بني إسرائيل } أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه، أو المراد بلفظ بني إسرائيل المتقدمون والمتأخرون، والمراد بالخطاب في { توليتم } خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما، وهو أولى من جعل ما صدق { بني إسرائيل } هو ما صدق ضمير { توليتم } وأن الكلام التفات. وقوله { لا تعبدون إلا الله } خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه. وجملة { لا تعبدون } مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركاً لها في معنى البيانية سواء قَدَّرْت أنْ أو لم تقدِّرْها أو قدَّرت قولاً محذوفاً. وقوله { وبالوالدين إحساناً } هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما { بالوالدين إحساناً } وأصله وإحساناً بالوالدين، والمصدر بدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحساناً. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أنْ والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس، والعجب من ابن جني كيف تابعهم في «شرحه للحماسة» على هذا عند قول الحماسي
وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان   
وعلى طريقتهم تعلق قوله { بالوالدين } بفعل محذوف تقديره وأحسنوا، وقوله { إحساناً } مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك.

السابقالتالي
2