قيل الواو لعطف الجملة على جملة{ وقد كان فريق منهم } البقرة 75 فتكون حالاً مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون { لن تمسنا النار }. والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله{ يكتبون } البقرة 79 إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار. ووجه المناسبة أن قولهم { لن تمسنا النار } دل على اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياماً معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياماً عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام. وقوله { وقالوا } أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله{ قالوا آمنا } البقرة 14 ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم قال مالك، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب
علام تقول الرمح يثقل عاتقي
والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى{ والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب } الأنعام 49. وعبر عن نفيهم بحرف لن الدال على تأييد النفي تأكيداً لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد، ولدلالة لن على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله { إلا أياماً معدودة } على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية. والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعاً للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصوداً هنا. وتأنيث معدودة وهو صفة أياماً مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات، وسيأتي ذلك في قوله تعالى{ أياماً معدودات } البقرة 184. وقوله { قل أتخذتم عند الله عهداً } جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } البقرة 30 والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده { بلى } فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو { أم تقولون } لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.