الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالُواْ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ ٱلبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ ٱللَّهُ لَمُهْتَدُونَ }

القول في { ما هي } كالقول في نظيره، فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم بـ { أنها بقرة لا ذلول } لما عُلم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة، وإن كان المحكي في القرآن اختصاراً لكلامهم فالأمر ظاهر. على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به. وجملة { إن البقر تشابه علينا } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلاً عن سبب هذا التكرير في السؤال، وقولهم { إن البقر تشابه علينا } اعتذار عن إعادة السؤال، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعاً في النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة. وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد إن مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في «دلائل الإعجاز» ومثله بقول بشار
بَكّرا صاحِبَيَّ قبْلَ الهَجير إن ذاك النجاحَ في التبكير   
تقدم ذكرها عند قوله تعالىإنك أنت العليم الحكيم } البقرة 32 في هذه السورة وذكر فيه قصة. وقولهموإنا إن شاء الله لمهتدون } تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قولهفافعلوا ما تؤمرون } البقرة 68 ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفادياً من غضب موسى عليهم. والتعليق بـ { إن شاء الله } للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير. والقول في وجه التأكيد في { إنه يقول إنها بقرة } كالقول في نظيره الأول. والذلول ـــ بفتح الذال ـــ فعول من ذل ذلاً ـــ بكسر الذال في المصدر ـــ بمعنى لان وسهل. وأما الذل ـــ بضم الذال ـــ فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة. و { لا ذلول } صفة لبقرة. وجملة { تثير الأرض } حال من { ذلول }. وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهراً وظاهره باطناً، أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيهاً لانقلال أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالىفتثير سحاباً } الروم 48 أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم 9وأثاروا الأرض } ولا تسقي الحرث } في محل نصب على الحال. وإقحام لا بعد حرف العطف في قوله { ولا تسقي الحرث } مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى

السابقالتالي
2