الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَٰشِعِينَ } * { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَٰجِعُونَ }

خطاب لبني إسرائيل بالإرشاد إلى ما يعينهم على التخلق بجميع ما عدد لهم من الأوامر والنواهي الراجعة إلى التحلي بالمحامد والتخلي عن المذمات، له أحسن وقع من البلاغة فإنهم لما خوطبوا بالترغيب والترهيب والتنزيه والتشويه ظن بهم أنهم لم يبق في نفوسهم مسلك للشيطان ولا مجال للخذلان وأنهم أنشأوا يتحفزون للامتثال والائتساء، إلا أن ذلك الإلف القديم يثقل أرجلهم في الخطو إلى هذا الطريق القويم، فوصف لهم الدواء الذي به الصلاح وريش بقادمتي الصبر والصلاة منهم الجناح. فالأمر بالاستعانة بالصبر لأن الصبر ملاك الهدى فإن مما يصد الأمم عن اتباع دين قويم إلفهم بأحوالهم القديمة وضعف النفوس عن تحمل مفارقتها فإذا تدرعوا بالصبر سهل عليهم اتباع الحق. وأما الاستعانة بالصلاة فالمراد تأكيد الأمر بها الذي في قولهوأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } البقرة 43وهذا إظهار لحسن الظن بهم وهو طريق بديع من طرق الترغيب. ومن المفسرين من زعم أن الخطاب في قوله { واستعينوا } إلخ للمسلمين على وجه الانتقال من خطاب إلى خطاب آخر، وهذا وهم لأن وجود حرف العطف ينادي على خلاف ذلك ولأن قوله { إلا على الخاشعين } مراد به إلا على المؤمنين حسبما بينه قوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } الآية اللهم إلا أن يكون من الإظهار في مقام الإضمار وهو خلاف الظاهر مع عدم وجود الداعي. والذي غرهم بهذا التفسير توهم أنه لا يؤمر بأن يستعين بالصلاة من لم يكن قد آمن بعد وأي عجب في هذا؟ وقريب منه آنفاً قوله تعالىوأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين } البقرة 43 خطاباً لبني إسرائيل لا محالة. والصبر عرفه الغزالي في «إحياء علوم الدين» بأنه ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الشهوة وهو تعريف خاص بالصبر الشرعي صالح لأن يكون تفسيراً للآية لأنها في ذكر الصبر الشرعي، وأما الصبر من حيث هو ـــ الذي هو وصف كمال ـــ فهو عبارة عن احتمال النفس أمراً لا يلائمها إما لأن مآله ملائم، أو لأن عليه جزاء عظيماً فأشبه ما مآله ملائم، أو لعدم القدرة على الانتقال عنه إلى غيره مع تجنب الجزع والضجر، فالصبر احتمال وثبات على ما لا يلائم، وأقل أنواعه ما كان عن عدم المقدرة ولذا ورد في «الصحيح» «إنما الصبر عند الصدمة الأولى» أي الصبر الكامل هو الذي يقع قبل العلم بأن التفصي عن ذلك الأمر غير ممكن وإلا فإن الصبر عند اعتقاد عدم إمكان التفصي إذا لم يصدر منه ضجر وجزع هو صبر حقيقة. فصيغة الحصر في قوله «إنما الصبر» حصر ادعائي للكمال كما في قولهم أنت الرجل. والصلاة أريد بها هنا معناها الشرعي في الإسلام وهي مجموع محامد لله تعالى، قولاً وعملاً واعتقاداً فلا جرم كانت الاستعانة المأمور بها هنا راجعة لأمرين الصبر والشكر.

السابقالتالي
2 3 4