الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ }

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ }. يتعين أن يكون كلاماً متصلاً بقولهللمتقين } البقرة 2 على أنه صفة لإرْدَاف صفتِهم الإجمالية بتفصيلٍ يعرف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوَّه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صِنفاً مؤمنين وصنفاً كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفُّوا مع المنافقين وظاهَروا المشركين. وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هُدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقولهوالذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون } البقرة 4 الخ. فالمثنيُّ عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلاً لما جاء من اليمن راغباً في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعاً في الملك هو من غير المتقين. وفريق آخر يجيء ذكره بقولهوالذين يؤمنون بما أنزل إليك } البقرة 4 الآيات. وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله { يؤمنون بالغيب } أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصِّلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدُّد إيذاناً بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن. وجوز صاحب «الكشاف» كونه كلاماً مستأنفاً مبتدأ وكونأولئك على هدى } البقرة 5 خبره. وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيراً من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن. والغيب مصدر بمعنى الغيبةذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } يوسف 52ليعلم الله من يخافه بالغيب } المائدة 94 وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة
كيف الهجاء وما تنفك صالحة من آل لام بظهر الغيب تأتيني   

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7