الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَٱعْفُ عَنَّا وَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَٰـنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ }

الأظهر أنّه من كلام الله تعالى، لا من حكاية كلام الرسول والمؤمنين، فيكون اعتراضاً ين الجمل المحكية بالقول، وفائدته إظهار ثمرة الإيمان، والتسليم، والطاعة، فأعلمهم الله بأنّه لم يجعل عليهم في هذا الدين التكليف بما فيه مشقة، وهو مع ذلك تبشير باستجابة دعوتهم الملقنة، أو التي ألهموها وهي { ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ } ــــــ إلى قوله ــــــ { ما لا طاقة لنا به } قبل أن يحكي دعواتهم تلك. ويجوز أن يكون من كلام الرسول والمؤمنين، كأنّه تعليل لقولهم سمعنا وأطعنا أي علمنا تأويل قول ربناوإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } البقرة 284 بأنّه يدخلها المؤاخذة بما في الوسع، ممَّا أبدى وما أخفى، وهو ما يظهر له أثر في الخارج اختياراً، أو يعقد عليه القلب، ويطمئنّ به، إلاّ أنّ قوله { لها ما كسبت } إلخ يبعد هذا إذ لا قبل لهم بإثبات ذلك. فعلى أنّه من كلام الله فهو نسخ لقوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } وهذا مروي في «صحيح مسلم» عن أبي هريرة وابن عباس أنّه قال لما نزلتوإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } البقرة 284 اشتدّ ذلك على أصحاب رسول الله فأتوه وقالوا لا نطيقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا " سمعنا وأطعنا وسلمنا " فألقى الله الإيمان في قلوبهم، فلمّا فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } ، وإطلاق النسخ على هذا اصطلاح للمتقدّمين، والمراد البيانُ والتخصيص لأنّ الذي تطمئنّ له النفس أنّ هذه الآيات متتابعة النظم، ومع ذلك يجوز أن تكون نزلت منجّمة، فحدَث بين فترة نزولها ما ظنّه بعض المسلمين حرجاً. والوسع في القراءة بضم الواو، في كلام العرب مثلّث الواو وهو الطاقة والاستطاعة، والمراد به هنا ما يطاق ويستطاع، فهو من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. والمستطاع هو ما اعتادَ الناسُ قدرتَهم على أن يفعلوه إن توجّهت إرادتهم لفعله مع السلامة وانتفاء الموانع. وهذا دليل على عدم وقوع التكليف بما فوق الطاقة في أديان الله تعالى لعموم نفساً في سياق النفي، لأنّ الله تعالى ما شرع التكليف إلاّ للعمل واستقامة أحوال الخلق، فلا يكلّفهم ما لا يطيقون فعله، وما ورد من ذلك فهو في سياق العقوبات، هذا حكم عام في الشرائع كلّها. وامتازت شريعة الإسلام باليسر والرفق، بشهادة قوله تعالىوما جعل عليكم في الدين من حرج } الحج 78 وقوله { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، ولذلك كان من قواعد الفقه العامة «المشقّةُ تجلب التيسير». وكانت المشقة مظنّة الرخصة، وضبط المشاقّ المسقطة للعبادة مذكور في الأصول، وقد أشبعت القول فيه في كتابي المسمّى «مقاصد الشريعة» وما ورد من التكاليف الشاقّة فأمر نادر، في أوقات الضرورة، كتكليف الواحد من المسلمين بالثباتِ للعشرة من المشركين، في أول الإسلام، وقلّة المسلمين.

السابقالتالي
2 3 4 5 6