الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ءَامَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ }

قال الزجاج «لما ذكر الله في هذه السورة أحكاماً كثيرةً، وقصصاً، ختمها بقوله { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه } تعظيماً لنبيّه صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وتأكيداً وفذلكة لجميع ذلك المذكور من قبل». يعني أنّ هذا انتقال من المواعظ، والإرشاد، والتشريع، وما تخلّل ذلك ممّا هو عون على تلك المقاصد، إلى الثناء على رسوله والمؤمنين في إيمانهم بجميع ذلك إيماناً خالصاً يتفرّع عليه العمل لأنّ الإيمان بالرسول والكتاب، يقتضي الامتثالَ لما جاء به من عمل. فالجملة استئناف ابتدائي وضعت في هذا الموقع لمناسبة ما تقدم، وهو انتقال مؤذن بانتهاء السورة لأنّه لما انتقل من أغراض متناسبة إلى غرض آخر هو كالحاصل والفذلكة، فقد أشعر بأنّه استوفى تلك الأغراض. وورد في أسباب النزول أنّ قوله { آمن الرسول } يرتبط بقولهوإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } البقرة 284 كما تقدم آنفاً. وأل في الرسول للعهد. وهو عَلَم بالغلبة على محمد صلى الله عليه وسلم في وقت النزول قال تعالىوهمّوا بإخراج الرسول } التوبة 13. و { المؤمنون } معطوف على { الرسول } ، والوقف عليه. والمؤمنون - هنا - لَقَب للذين استجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك كان في جعله فاعلاً لقوله { آمن } فائدةٌ، مع أنّه لا فائدةَ في قولك قامَ القائمون. وقوله { كل آمن بالله } جمع بعد التفصيل، وكذلك شأن كلَ إذا جاءت بعد ذكر متعدّد في حُكْم، ثم إرادة جمعه في ذلك، كقول الفضل بن عباس اللَّهَبِي، بعد أبيات
كُلٌّ له نِيَّةٌ في بغض صاحبه بنعمة الله نقليكم وتَقْلُونا   
وإذ كانت كلّ من الأسماء الملازمة الإضافة فإذا حذف المضاف إليه نوّنت تنوينَ عوض عن مفرد كما نبّه عليه ابن مالك في «التسهيل». ولا يعكر عليه أنّ كل اسم معرب لأنّ التنوين قد يفيد الغرضين فهو من استعمال الشيء في معنييه. فمن جوّز أن يكون عَطْفُ { المؤمنون } عطفَ جملة وجعل { المؤمنون } مبتدأ وجعل { كلٌّ } مبتدأ ثانياً { وآمن } خبره، فقد شذّ عن الذوق العربي. وقرأ الجمهور { وكتبه } بصيغة جمع كتاب، وقرأه حمزة، والكسائي وكِتَابِه، بصيغة المفرد على أنّ المراد القرآن أو جنس الكتاب. فيكون مساوياً لقوله { وكتبه } ، إذ المراد الجنس، والحقُّ أنّ المفرد والجمع سواء في إرادة الجنس، ألا تراهم يقولون إنّ الجمع في مدخول أل الجنسية صوري، ولذلك يقال إذا دَخلت ألْ الجنسية على جمع أبطلت منه معنى الجمعية، فكذلك كل ما أريد به الجنس كالمضاف في هاتين القراءتين، والإضافة تأتي لما تأتي له اللام، وعن ابن عباس أنّه قال، لما سئل عن هذه القراءة «كتابِه أكثر من كُتبِه - أو - الكتاب أكثر من الكتب» فقيل أراد أنّ تناول المفرد المراد به الجنس أكثر من تناول الجمع حين يراد به الجنس، لاحتمال إرادة جنس الجموع، فلا يسري الحكم لما دون عدد الجمع من أفراد الجنس، ولهذا قال صاحب «المفتاح» «استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع».

السابقالتالي
2