الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ للَّهِ ما فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ ٱللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

تعليل واستدلال على مضمون جملة { والله بما تعملون عليم } وعلى ما تقدم آنفاً من نحوالله بكل شيء عليم } آل عمران 176واللَّه بما تعملون عليم } البقرة 283واللَّه بما تعملون بصير } الممتحنة 3واللَّه بما تعملون خبير } البقرة 234 فإذا كان ذلك تعريضاً بالوعد والوعيد، فقد جاء هذا الكلام تصريحاً واستدلالاً عليه، فجملة { وإن تبدوا ما في أنفسكم } إلى آخرها هي محطُّ التصريح، وهي المقصود بالكلام، وهي معطوفة على جملةولا تكتموا الشهادة } البقرة 283 إلىوالله بما تعملون عليم } البقرة 283 وجملةُ { لله ما في السموات وما في الأرض } هي موقع الاستدلال، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين، أو علة لجملة { والله بما تعملون عليم } باعتبار إرادة الوعيد والوعد، فالمعنى إنّكم عبيدُه فلا يفوته عملَكُم والجزاء عليه. وعلى هذا الوجه تكون جملة «وإن تبدوا ما في أنفسكم» معطوفة على جملة { لله ما في السموات وما في الأرض } عطف جملة على جملة، والمعنى إنكم عبيدُه، وهو محاسبكم، ونظيرُها في المعنى قوله تعالىوأسِرُّوا قولكم أو اجهروا به إنّه عليم بذات الصدور ألا يَعْلَمُ من خلق } الملك 13، 14 ولا يخالف بينهما إلاّ أسلوب نظم الكلام. ومعنى الاستدلال هنا إنّ الناس قد علموا أنّ الله ربّ السموات والأرض، وخالق الخلق، فإذا كان في السموات والأرض لِلَّه، مخلوقاً له، لزم أن يكون جميع ذلك معلوماً له لأنَّه مكوِّن ضمائرِهم وخواطرهم، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية لأنّه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلاً عن خالقه. ومالكيةُ الله تعالى أتَمّ أنواع الملك على الحَقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه وجوبُ الوجود من صفات الكمال. فقوله { لله ما في السموات وما في الأرض } تمهيد لقوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } الآية. وعُطف قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم } بالواو دون الفاء للدلالة على أنّ الحكم الذي تضمَّنه مقصود بالذات، وأنّ ما قبله كالتمهيد له. ويجوز أن يكون قوله { وإن تبدوا } عطفاً على قولهوالله بما تعملون عليم } البقرة 283 ويكون قوله { لله ما في السموات وما في الأرض } اعتراضاً بينهما. وإبداء ما في النفس إظهاره، وهو إعلانه بالقول، فيما سبيله القول، وبالعمل فيما يترتّب عليه عمل وإخفاؤه بخلاف ذلك، وعطف { أو تخفوه } للترقّي في الحساب عليه، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف، وفي الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات. وما في النفي يعمّ الخير والشر. والمحاسبة مشتقّة من الحُسبان وهو العدّ، فمعنى يحاسبكم في أصل اللغة يعُدُّه عليكم، إلاّ أنّه شاع إطلاقه على لازم المعنى وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى

السابقالتالي
2