الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ ٱلَّذِي ٱؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ }

هذا معطوف على قولهإذا تداينتم بدَين } البقرة 282 الآية، فجميع ما تقدّم حكم في الحضر والمُكنة، فإن كانوا على سفر ولم يتمكّنوا من الكتابة لعدم وجود من يكتب ويشهد فقد شُرع لهم حكم آخر وهو الرهن، وهذا آخر الأقسام المتوقّعة في صور المعاملة، وهي حالة السفر غالباً، ويلحق بها ما يماثل السفر في هاته الحالة. والرهان جمع رهن - ويجمع أيضاً على رُهُن بضم الراء وضم الهاء - وقد قرأه جمهور العشرة بكسر الراء وفتح الهاء، وقرأه ابن كثير، وأبو عَمْرو بضم الراء وضم الهاء، وجمْعُه باعتبار تعدّد المخاطبين بهذا الحكم. والرهن هنا اسم للشيء المرهون تسميةً للمفعول بالمصدر كالخلْق. ومعنى الرهن أن يجعل شيء من متاع المدين بيد الدائن توثقة له في دينه. وأصل الرهن في كلام العرب يدل على الحَبس قال تعالىكل نفس ما كسبت رهينة } المدثر 38 فالمرهون محبوس بيد الدائن إلى أن يستوفي دينه قال زهير
وفارقْتَك برهن لا فَكَاكَ لَه يومَ الوَدَاعِ فأمسَى الرهن قد غَلِقَا   
والرهن شائع عند العرب فقد كانوا يرهنون في الحمالات والدَيات إلى أن يقع دفعها، فربّما رهنوا أبناءهم، وربّما رهنوا واحداً من صناديدهم، قال الأعشى يَذْكر أنّ كِسْرى رام أخذ رهائن من أبنائهم
آلَيْتُ لا أُعْطِيه من أبنائنا رُهُنا فنفسدَهم كمَن قد أفْسَدا   
وقال عبد الله بن هَمَّام السلولي
فلمّا خَشِيتُ أظَافِيرَهم نَجَوْت وأرْهَنْتُهُم مَالِكَا   
ومن حديث كعب بن الأشْرَفِ أنّه قال لعبد الرحمان بن عَوْف ارْهَنُوني أبْنَاءَكم. ومعنى فرِهانٌ أي فرهان تعَوّض بها الكتابة. ووصفُها بمقبوضة إمّا لمجرّد الكشف، لأنّ الرهان لا تكون إلاّ مقبوضة، وإمّا للاحتراز عن الرهن للتوثقة في الديون في الحضر فيؤخَذ مِن الإذن في الرهن أنّه مباح فلذلك إذا سأله ربّ الدين أجيبَ إليه فدلّت الآية على أنّ الرهن توثقة في الدين. والآية دالة على مشروعية الرهن في السفر بصريحها. وأمّا مشروعية الرهن في الحضر فلأنّ تعليقه هنا على حال السفر ليس تعليقاً بمعنى التقييد بل هو تعليق بمعنى الفرض والتقدير، إذا لم يوجد الشاهد في السفر، فلا مفهوم للشرط لوروده مورد بيان حالة خاصة لا للاحتراز، ولا تعتبر مفاهيم القيود إلاّ إذا سيقت مساق الاحتراز، ولذا لم يعتدّوا بها إذا خرجت مخرج الغالب. ولا مفهوم له في الانتقال عن الشهادة أيضاً إذ قد علم من الآية أنّ الرهن معاملة لهم، فلذلك أحيلوا عليها عند الضرورة على معنى الإرشاد والتنبيه. وقد أخذ مجاهد، والضحّاك، وداود الظاهري، بظاهر الآية من تقييد الرهن بحال السفر، مع أنّ السنّة أثبتت وقوع الرهن من الرسول صلى الله عليه وسلم ومن أصحابه في الحضَر. والآية دليل على أنّ القبض من متمّمات الرّهن شرعاً، ولم يختلف العلماء في ذلك، وإنّما اختلفوا في الأحكام الناشئة عن ترك القبض، فقال الشافعي القبض شرط في صحة الرهن، لظاهر الآية، فلو لم يقارن عقدة الرهن قبض فسدت العقدة عنده، وقال محمد بن الحسن، صاحب أبي حنيفة لا يجوز الرهن بدون قبض، وتردّد المتأخّرون من الحنفية في مفاد هذه العبارة فقال جماعة هو عنده شرط في الصحة كقول الشافعي، وقال جماعة هو شرط في اللزوم قريباً من قول مالك، واتفق الجميع على أنّ للراهن أن يرجع بعد عقد الرهن إذا لم يقع الحوز، وذهب مالك إلى أنّ القبض شرط في اللزوم، لأنّ الرهن عقد يثبت بالصيغة كالبيع، والقبضُ من لوازمه، فلذلك يُجبر الراهن على تحويز المرتهن إلاّ أنّه إذا مات الراهن أو أفلس قبل التحويز كان المرتهن أسوةَ الغرماء إذ ليس له ما يؤثره على بقية الغرماء، والآية تشهد لهذا لأنّ الله جعل القبض وصفاً للرهن، فعلم أنّ ماهية الرهن قد تحقّقت بدون القبض.

السابقالتالي
2 3 4 5 6