الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }

ثُني عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفاًيأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم } البقرة 21، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قولهوبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري } البقرة 25 إلى قولهالخاسرون } البقرة 27. وليس في قوله { كيف تكفرون بالله } تناسب مع قولهإن الله لا يستحي أن يضرب مثلاً ما } البقرة 26 وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهمماذا أراد الله بهذا مثلاً } البقرة 26 حتى يكون الأنتقالُ إلى الخطاب في قوله { تكفرون } التفاتاً، فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض، بعد استيفاء ما تخلل واعترض. ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قولهيأيها الناس اعبدوا ربكم } البقرة 21 الخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا { كيف تكفرون بالله } فقال فيما تقدمالذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } البقرة 21الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناء } البقرة 22 الآية وقال هناوكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء } البقرة 29 وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره. فالخطاب في قوله { تكفرون } متعين رجوعه إلى الناس وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني. وكيف اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الاسمي الذي دل عليه لما كان معنى مبهماً شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوي شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محلِّ إعراب، وأكثر استعماله اسمُ استفهام فيعرب إعراب الحال. ويستفهم بكيف عن الحال العامة. والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله { وكنتم أمواتاً } الخ أي أن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفياً لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعْدُ فكان من شأنه أن يُنكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يُظهر السبب فيُبطل الإنكار والعجَب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقاً باللوم والوعيد. والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكَفَر الثلاثي القاصر وأصله جَحْد المنعَم عليه نعمةَ المنْعِم، اشتق من مادة الكَفر بفتح الكاف وهو الحَجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها.

السابقالتالي
2 3 4