الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَٰلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }

قوله { يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } إفضاء إلى التشريع بعد أن قُدم أمامَه من الموعظة ما هيّأ النفوس إليه. فإن كان قولهوأحل الله البيع وحرم الربا } البقرة 275 من كلام الذين قالواإنما البيع مثل الربا } البقرة 275 فظاهر، وإن كان من كلام الله تعالى فهو تشريع وقع في سياق الرد، فلم يكتف بتشريع غير مقصود ولذا احتيج إلى هذا التشريع الصريح المقصود، وما تقدم كلّه وصف لحال أهل الجاهلية وما بقي منه في صدر الإسلام قبل التحريم. وأمروا بتقوى الله قبل الأمر بترك الربا لأنّ تقْوَى الله هي أصل الامتثال والاجتناب ولأن ترك الربا من جملتها. فهو كالأمرِ بطريق برهاني. ومعنى { وذروا ما بقي من الربا } الآية اتركوا ما بقي في ذمم الذين عاملتموهم بالربا، فهذا مقابل قوله «فله ما سلف»، فكان الذي سلفَ قبضُه قبل نزول الآية معفوا عنه وما لم يقبض مأموراً بتركه. قيل نزلت هذه الآية خطاباً لثقيف ــــــ أهل الطائف ــــــ إذ دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة وبعد حصار الطائف على صلح وقع بينهم وبين عتّاب بن أسَيْد ــــــ الذي أولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة بعد الفتح ــــــ بسبب أنّهم كانت لهم معاملات بالربا مع قريش، فاشترطت ثقيف قبل النزول على الإسلام أنّ كل ربا لهم على الناس يأخذونه، وكل ربا عليهم فهو موضوع، وقبل منه رسول الله شَرْطَهم، ثم أنزل الله تعالى هذه الآية خطاباً لهم ــــــ وكانوا حديثي عهد بإسلام ــــــ فقالوا لا يَدَيْ لنا بحرب الله ورسوله. فقوله { إن كنتم مؤمنين } معناه إن كنتم مؤمنين حقاً، فلا ينافي قوله { يأيها الذين آمنوا } إذ معناه يأيها الذين دخلوا في الإيمان، واندفعت أشكالات عرضت. وقوله { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } يعني إن تمسكتم بالشرط فقد انتقض الصلح بيننا، فاعلموا أنّ الحرب عادت جذعة، فهذا كقوله «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء». وتَنكير حرب لقصد تعظيم أمرها ولأجل هذا المقصد عدل عن إضافة الحرب إلى الله وجيء عوضاً عنها بمن ونسبت إلى الله لأنّها بإذنه على سبيل مجاز الإسناد، وإلى رسوله لأنّه المبلغ والمباشر، وهذا هو الظاهر. فإذا صح ما ذكر في سبب نزولها فهو من تجويز الاجتهاد للنبيء صلى الله عليه وسلم في الأحكام إذْ قبل من ثقيف النزول على اقتضاء ما لَهم من الربا عند أهل مكة، وذلك قبل أن ينزل قوله تعالى { وذروا ما بقى من الربا } فيحتمل أنّ النبي صلى الله عليه وسلم رأى الصلح مع ثقيف على دخولهم في الإسلام مع تمكينهم مما لهم قبل قريش من أموال الربا الثابتة في ذممهم قبل التحريم مصلحة، إذ الشأن أنّ ما سبق التشريع لا ينقض كتقرير أنكحة المشركين، فلم يُقِرّه الله على ذلك وأمر بالانكفاف عن قبض مال الربا بعد التحريم ولو كان العقد قبل التحريم، ولذلك جعلهم على خيرة من أمرهم في الصلح الذي عقدوه.

السابقالتالي
2