الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لِلْفُقَرَآءِ ٱلَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي ٱلأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ }

{ للفقراء } متعلّق بتنفقون الأخير، وتعلّقه به يؤذن بتعلّق معناه بنظائره المقدّمة، فما من نفقة ذكرت آنفاً إلاّ وهي للفقراء لأنّ الجمل قد عضد بعضها بعضاً. و { الذين أحصروا } أي حبسوا وأرصدوا. ويحتمل أنّ المراد بسبيل الله هنا الجهاد فإن كان نزولها في قوم جرحوا في سبيل الله فصاروا زمْنَى ففي للسبيبة والضرب في الأرض المشي للجهاد بقرينة قوله { في سبيل الله } ، والمعنى أنّهم أحقّاء بأن ينفق عليهم لعجزهم الحاصل بالجهاد وإن كانوا قوماً بصدد القتال يحتاجون للمعونة، ففي للظرفية المجازية وإن كان المراد بهم أهل الصفة، وهم فقراء المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم بمكة وجاؤوا دار الهجرة لا يستطيعون زراعة ولا تجارة، فمعنى أحصروا في سبيل الله عِيقوا عن أعمالهم لأجل سبيل الله وهو الهجرة، ففي للتعليل. وقد قيل إنّ أهل الصفة كانوا يخرجون في كل سريّة يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه فسبيل الله هو الجهاد. ومعنى «أحصروا» على هذا الوجه أرصدوا. و في باقية على التعليل. والظاهر من قوله { لا يستطيعون ضرباً } أنّهم عاجزون عن التجارة لقلّة ذات اليد، والضرب في الأرض كناية عن التجر لأنّ شأن التاجر أن يسافر ليبتاع ويبيع فهو يضرب الأرض برجليه أو دابّته. وجملة { لا يستطيعون ضرباً } يجوز أن تكون حالاً، وأن تكون بياناً لجملة أحصروا. وقوله { يحسبهم الجاهل أغنياء } حال من الفقراء، أي الجاهل بحالهم من الفقر يظنّهم أغنياء، ومن للابتداء لأنّ التعفّف مبدأ هذا الحسبان. والتعفّف تكلّف العفاف وهو النزاهة عمّا يليق. وفي «البخاري» باب الاستعفاف عن المسألة، أخرج فيه حديث أبي سعيد أنّ الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفِدَ ما عنده فقال " ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغْنِه الله، ومن يتصبّر يصبِّره الله ". وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو والكسائي وخلف ويعقوب يحسِبهم بكسر السين وقرأه الباقون بفتح السين، وهما لغتان. ومعنى { تعرفهم بسماهم } أي بعلامة الحاجة والخطاب لغير معيَّن ليعم كلّ مخاطب، وليس للرسول لأنّه أعلم بحالهم. والمخاطب بتَعْرفهم هو الذي تصدّى لتطّلع أحوال الفقراء، فهو المقابل للجاهل في قوله { يحسبهم الجاهل أغنياء }. والجملة بيان لجملة { يحسبهم الجاهل أغنياء } ، كأنّه قيل فبماذا تصل إليهم صدقات المسلمين إذا كان فقرهم خفيّاً، وكيف يُطّلع عليهم فأحيل ذلك على مظنّة المتأمّل كقولهإن في ذلك لآيٰت للمتوسمين } الحجر 75. والسيما العلامة، مشتقة من سَام الذي هو مقلوب وَسَم، فأصلها وِسْمَى، فوزنها عِفْلَى، وهي في الصورة فِعْلى، يدل لذلك قولهم سِمَة فإنّ أصلها وِسْمَة.

السابقالتالي
2