الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ٱلْفُقَرَآءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }

استئناف بياني ناشىء عن قولهوما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه } البقرة 270، إذ أشعر تعميمُ «مِن نفقة» بحال الصدقات الخفيّة فيتساءل السامع في نفسه هل إبداء الصدقات يُعد رِياءً وقد سمع قبل ذلك قولهكالذي ينفق ماله رئاء الناس } البقرة 264، ولأنّ قولهفإن الله يعلمه } البقرة 270 قد كان قولاً فصلاً في اعتبار نيَّات المتصدّقين وأحوال ما يظهرونه منها وما يخفونه من صدقاتهم. فهذا الاستئناف يدفع توهّماً من شأنه تعطيل الصدقات والنفقات، وهو أن يمسك المرء عنها إذا لم يجد بُدّاً من ظهورها فيخشى أن يصيبه الرياء. والتعريف في قوله { الصدقات } تعريف الجنس، ومحمله على العموم فيشمل كل الصدقات فرضِها ونفلها، وهو المناسب لموقع هذه الآية عقب ذكر أنواع النفقاتِ. وجاء الشرط بإنْ في الصدقتين لأنّها أصل أدوات الشرط، ولا مقتضى للعدول عن الأصل، إذ كلتا الصدقتين مُرض لله تعالى، وتفضيل صدقة السرّ قد وفى به صريح قوله { فهو خير لكم }. وقوله { فنعما } أصله فنعمَ مَا، فأدغم المِثلان وكسرت عَيْن نِعْم لأجل التقاء الساكنين، وما في مثله نكرة تامة أي متوغّلة في الإبهام لا يقصد وصفها بما يخصّصها، فتمامُها من حيث عدم إتباعها بوصف لا من حيث إنّها واضحة المعنى، ولذلك تفسّر بشيء. ولما كانت كذلك تعيّن أن تكون في موضع التمييز لضمير نعم المرفوع المستتر، فالقصد منه التنبيه على القصد إلى عدم التمييز حتى إنّ المتكلم ــــــ إذا ميّز ــــــ لا يميّز إلاّ بمثلِ المميَّز. وقوله { هِي } مخصوص بالمدح، أي الصدقاتُ، وقد علم السامع أنّها الصدقات المُبْدَأة، بقرينة فعل الشرط، فلذلك كان تفسير المعنى فنعما إبداؤهما. وقرأ ورش عن نافع وابنُ كثير وحفص ويعقوب فنِعِمَّا ــــــ بكسر العين وتشديد الميم من نِعم مع ميم ما ــــــ. وقرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح النون وكسر العين. وقرأه قالون عن نافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بكسر النون واختلاس حركة العين بين الكسر والسكون. وقرأه أبو جعفر بكسر النون وسكون العين مع بقاء تشديد الميم، ورويت هذه أيضاً عن قالون وأبي عمرو وأبي بكر. وقوله { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } تفضيل لصدقة السرّ لأنّ فيها إبْقاء على ماءِ وجه الفقير، حيث لم يطّلع عليه غير المعطي. وفي الحديث الصحيح، عَد من السبعة الذين يظلّهم الله بظلّه "...ورجلٌ تصدّقَ بصدقة فأخفاها حتى لا تَعلمَ شِماله ما أنْفَقَت يَمينه " يعني مع شدّة القرب بين اليمين والشمال لأنّ حساب الدراهم ومناولة الأشياء بتعاونهما، فلو كانت الشمال من ذوات العلم لما اطلعت على ما أنفقته اليمين. وقد فضّل الله في هذه الآية صدقة السرّ على صدقة العلانية على الإطلاق، فإن حُملت الصدقات على العموم ــــــ كما هو الظاهر ــــــ إجراءً للفظ الصدقات مجرى لفظ الإنفاق في الآي السابقة واللاّحِقة ــــــ كان إخفاء صدقة الفرض والنفل أفضل، وهو قول جمهور العلماء، وعن الكِيَا الطَّبَري أنّ هذا أحد قولي الشافعي.

السابقالتالي
2