الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ } * { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }

تخلُّص من غرض التنويه بالإنفاق في سبيل الله إلى التنويه بضرب آخر من الإنفاق وهو الإنفاق على المحاويج من الناس، وهو الصدقات. ولم يتقدم ذكر للصدقة إلاّ أنّها تخطر بالبال عند ذكر الإنفاق في سبيل الله، فلما وصف الإنفاق في سبيل الله بصفة الإخلاص لله فيه بقولهالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما انفقوا } البقرة 262 الآية انتقل بمناسبة ذلك إلى طرد ذلك الوصف في الإنفاق على المحتاجين فإنّ المنّ والأذى في الصدقة أكثر حُصولاً لكون الصدقة متعلّقة بأشخاص معيّنين، بخلاف الإنفاق في سبيل الله فإن أكثر من تنالهم النفقة لا يعلمهم المنفِق. فالمنّ على المتصدّق عليه هو تذكيره بالنعمة كما تقدم آنفاً. ومن فقرات الزمخشري في «الكَلِم النَّوابغ» «طَعْمُ الآلاء أحْلى من المنّ. وهوَ أمَرُّ من الآلاء عند المنّ» الآلاء الأول النعم والآلاء الثاني شَجر مُر الورق، والمنّ الأول شيء شِبْه العسل يقع كالنَّدَى على بعض شجر بادية سِينا وهو الذي في قوله تعالىوأنزلنا عليكم المن والسلوى } البقرة 57، والمنّ الثاني تذكير المنَعم عليه بالنعمة. والأذى الإساءة والضرّ القليل للمنعم عليه قال تعالىلن يضروكم إلا أذى } آل عمران 111، والمراد به الأذى الصريح من المنعِم للمنعم عليه كالتطاول عليه بأنّه أعطاه، أو أن يتكبّر عليه لأجل العطاء، بله تعيِيره بالفقر، وهو غير الأذى الذي يحصل عند المن. وأشار أبو حامد الغزالي في كتاب الزكاة من «الإحياء» إلى أنّ المنّ له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته، ثم تتفرّع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح. ومنبع الأذى أمران كراهية المعطي إعطاءَ ماله وشدّةُ ذلك على نفسه ورؤيتُه أنّه خير من الفقير، وكلاهما منشؤهُ الجهل فإنّ كراهية تسليم المال حمق لأنّ من بذل المال لطلب رضا الله والثواب فقد علم أنّ ما حصل له من بذل المال أشرف ممّا بذله، وظنَه أنّه خير من الفقير جهل بِخطر الغنَى، أي أنّ مراتب الناس بما تتفاوت به نفوسهم من التزكية لا بعوارض الغنى والفقر التي لا تنشأ عن درجات الكمال النفساني. ولما حذّر الله المتصدّق من أن يؤذي المتصدّق عليه عُلِم أنّ التحذير من الإضرار به كشتمه وضربه حاصلٌ بفحوى الخطاب لأنّه أوْلى بالنهي. أوْسع اللَّهُ تعالى هذا المقام بيَاناً وترغيباً وزجراً بأساليب مختلفة وتفنّنات بديعة فنّبهنا بذلك إلى شدّة عناية الإسلام بالإنفاق في وجوه البرّ والمعُونة. وكيف لا تكون كذلك وقوام الأمة دوران أموالها بينها، وإنّ من أكبر مقاصد الشريعة الانتفاع بالثروة العامة بين أفراد الأمة على وجوه جامعة بين رعْي المنفعة العامة ورعي الوجدان الخاص، وذلك بمراعاة العدل مع الذي كدّ لجمع المال وكسبه، ومراعاةِ الإحسان للذي بطَّأ به جُهده، وهذا المقصد من أشرف المقاصد التشريعية.

السابقالتالي
2 3 4 5