الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ }

لما ذكر هول يوم القيامة وذكر حال الكافرين استأنف بذكر تمجيد الله تعلى وذكر صفاته إبطالاً لكفر الكافرين وقطعاً لرجائهم، لأنّ فيها { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ، وجعلت هذه الآية ابتداءً لآيات تقرير الوحدانية والبعث، وأودعت هذه الآية العظيمة هنا لأنّها كالبرزخ بين الأغراض السابقة واللاّحقة. وجيء باسم الذات هنا لأنّه طريق في الدلالة على المسمى المنفرد بهذا الاسم، فإنّ العَلَم أعْرَفُ المَعارف لعدم احتياجه في الدلالة على مسمّاه إلى قرينة أو مَعُونة لولا احتمالُ تعدد التسمية، فلما انتفى هذا الاحتمالُ في اسم الجلالة كان أعرفَ المعارف لا مَحالةً لاستغنائه عن القرائن والمعونات، فالقرائنُ كالتكلّم والخطاب، والمعونات كالمَعاد والإشارةِ باليدِ والصلةِ وسبقِ العهد والإضافة. وجملة «لا إله إلاَّ هو» خبر أول عن اسم الجلالة، والمقصود من هذه الجملة إثبات الوحدانية وقد تقدم الكلام على دلالة لا إله إلاّ هو على التوحيد ونفي الآلهة عند قوله تعالىوإلهكم إله واحد إلاّ هو } البقرة 163. وقوله { الحي } خبر لمبتدأ محذوف، و { القيّوم } خبر ثان لذلك المبتدإالمحذوف، والمقصودُ إثبات الحياة وإبطالُ استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية لانتفاء الحياة، عنهم كما قال إبراهيم عليه السلاميا أبت لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يبصر } مريم 42 وفُصِلت هذه الجملة عن التي قبلها للدلالة على استقلالها لأنّها لو عطفت لكانت كالتبع، وظاهر كلام الكشاف أنّ هذه الجملة مبيّنة لما تضمّنته جملة { الله لا إله إلا هو } من أنّه القائم بتدبير الخلق، أي لأنّ اختصاصه بالإلٰهية يقتضي أن لا مدبّر غيره، فلذلك فصلت خلافاً لما قرر به التفتازاني كلامَه فإنّه غير ملائم لعبارته. والحيّ في كلام العرب من قامت به الحياة، وهي صفة بها الإدراكُ والتصرّفُ، أعني كمال الوجود المتعارف، فهي في المخلوقات بانبثاث الروح واستقامة جريان الدم في الشرايين، وبالنسبة إلى الخالق ما يقاربُ أثَر صفة الحياة فينا، أعني انتفاء الجَمَادِيَّة مع التنزيه عن عوارض المخلوقات. وفسّرها المتكلّمون بأنها «صفة تصحّح لمن قامت به الإدراكَ والفعل». وفسّر صاحب «الكشاف» الحيّ بالباقي، أي الدائم الحياة بحيث لا يعتريه العدم، فيكون مستعملاً كناية في لازم معناه لأنّ إثباتَ الحياة لله تعالى بغير هذا المعنى لا يكون إلاَّ مجازاً أو كناية. وقال الفخر «الذي عندي أنّ الحي ــــــ في أصل اللغة ــــــ ليس عبارة عن صحة العلم والقدرة. بل عبارة عن كمال الشيء في جنسه، قال تعالىفأحيا به الأرض بعد موتها } الجاثية 5، وحياة الأشجار إيراقها. فالصفة المسمّاة ــــــ في عرف المتكلّمين ــــــ بالحياة سمّيت بذلك لأنّ كمال حال الجسم أن يكون موصوفاً بها، فالمفهوم الأصلي من لفظ الحيّ كونه واقعاً على أكمل أحواله وصفاته».

السابقالتالي
2 3 4 5 6