الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلْمَلإِ مِن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىۤ إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ٱبْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمِينَ }

جملة { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } استئناف ثان من جملةألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } البقرة 243 سيق مساق الاستدلال لجملةوقاتلوا في سبيل الله } البقرة 190 وفيها زيادة تأكيد لفظاعة حال التقاعس عن القتال بعد التهيؤ له في سبيل الله، والتكرير في مثله يفيد مزيد تحذير وتعريض بالتوبيخ فإن المأمورين بالجهاد في قوله { وقاتلوا في سبيل الله } لا يخلون من نفر تعتريهم هواجس تثبطهم عن القتال، حباً للحياة ومن نفر تعترضهم خواطر تهون عليهم الموت عند مشاهدة أكدار الحياة، ومصائب المذلة، فضرب الله لهذين الحالين مثلين أحدهما ما تقدم في قوله { ألم تر إلى الذين أخرجوا من ديارهم } والثاني قوله { ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل } وقد قدم أحدهما وأخر الآخر ليقع التحريض على القتال بينهما.” ومناسبة تقديم الأولى أنها تشنع حال الذين استسلموا واستضعفوا أنفسهم، فخرجوا من ديارهم مع كثرتهم، وهذه الحالة أنسب بأن تقدم بين يدي الأمر بالقتال والدفاع عن البيضة لأن الأمر بذلك بعدها يقع موقع القبول من السامعين لا محالة، ومناسبة تأخير الثانية أنها تمثيل حال الذين عرفوا فائدة القتال في سبيل الله لقولهم { وما لنا ألا نقاتل } إلخ. فسألوه دون أن يفرض عليهم فلما عين لهم القتال نكصوا على أعقابهم، وموضع العبرة هو التحذير من الوقوع في مثل حالهم بعد الشروع في القتال أو بعد كتبه عليهم، فلله بلاغة هذا الكلام، وبراعة هذا الأسلوب تقديماً وتأخيراً. وتقدم القول علىألم تر } البقرة 243 في الآية قبل هذه. والملأ الجماعة الذين أمرهم واحد، وهو اسم جمع كالقوم والرهط، وكأنه مشتق من الملْء وهو تعمير الوعاء بالماء ونحوه، وأنه مؤذن بالتشاور لقولهم تمالأ القوم إذا اتفقوا على شيء والكل مأخوذ من ملء الماء فإنهم كانوا يملأون قربهم وأوعيتهم كل مساء عند الورد، فإذا ملأ أحد لآخر فقد كفاه شيئاً مهماً لأن الماء قوام الحياة، فضربوا ذلك مثلاً للتعاون على الأمر النافع الذي به قوام الحياة والتمثيل بأحوال الماء في مثل هذا منه قول علي " اللهم عليك بقريش فإنهم قد قطعوا رحمي وأكفأوا إنائي " تمثيلاً لإضاعتهم حقه. وقوله { من بعد موسى } إعلام بأن أصحاب هذه القصة كانوا مع نبي بعد موسى، فإن زمان موسى لم يكن فيه نصب ملوك على بني إسرائيل وكأنه إشارة إلى أنهم أضاعوا الانتفاع بالزمن الذي كان فيه رسولهم بين ظهرانيهم، فكانوا يقولون اذهب أنت وربك فقاتلا، وكان النصر لهم معه أرجى لهم ببركة رسولهم، والمقصود التعريض بتحذير المسلمين من الاختلاف على رسولهم. وتنكير نبيء لهم للإشارة إلى أن محل العبرة ليس هو شخص النبي فلا حاجة إلى تعيينه، وإنما المقصود حال القوم وهذا دأب القرآن في قصصه، وهذا النبي هو صمويل وهو بالعربية شمويل بالشين المعجمة ولذلك لم يقل إذ قالوا لنبيهم، إذ لم يكن هذا النبي معهوداً عند السامعين حتى يعرف لهم بالإضافة.

السابقالتالي
2 3 4