الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ } * { وَقَٰتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة. وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة، فالقتال من أهم أغراضها، والمقصود من هذا الكلام هو قوله { وقاتلوا في سبيل الله } الآية. فالكلام رجوع إلى قولهكتب عليكم القتال وهو كره لكم } البقرة 216 وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بــــيسألونك } البقرة 217، 219، 220، 222. وموقع { ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم } قبل قوله { وقاتلوا في سبيل الله } موقع ذكر الدليل قبل المقصود، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد، إذ افتتح الخطبة فقال «ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بُسْراً هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم» فقوله «ما هي إلا الكوفة» موقعه موقع الدليل على قوله «لأظن هؤلاء القوم إلخ» وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجل «ما كنا نعدك للصراع، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك أبقى لنا سمعك، وبصرك، ولسانك، وعقلك، وإحدى رجليك» فقدم قوله ما كنا نعدك للصراع، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقاً للدعوى، أو حملاً على التعجيل بالامتثال. واعلم أن تركيب ألم تر إلى كذا إذا جاء فعل الرؤية فيه متعدياً إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه، كان كلاماً مقصوداً منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي، من معاني الاستفهام غير الحقيقي، وكان الخطاب به غالباً موجهاً إلى غير معين، وربما كان المخاطب مفروضاً متخيلاً. ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة الوجه الأول أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجب أو التعجيب، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية، ويكون فعل الرؤية علمياً من أخوات ظن، على مذهب الفراء وهو صواب لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيراً، ومنه قوله تعالىوالأمر إليك } النمل 33 أي لك وقالوا { أحمد الله إليك } كما يقال { أحمد لك الله } والمجرور بإلى في محل المفعول الأول، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقاً، وجملة { وهم ألوف } في موضع الحال، سادة مسد المفعول الثاني، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال، على تقدير ما كان من حقهم الخروج، وتفرع على قوله { وهم ألوف } قوله { فقال لهم الله موتوا } فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل إلى تجريداً لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم، أو قرينة عليها، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر، لكونه بين الصدق لمن علمه، فيكون قولهم { ألم تر إلى كذا } في قوله جملتين ألم تعلم كذا وتنظر إليه.

السابقالتالي
2 3 4