الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى ٱلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

موقع هذه الآية هنا بعد قولهوالذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } البقرة 243 إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن } يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع. والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولاً في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث، روي هذا عن ابن عباس، وقتادة والربيع وجابر بن زيد. وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال «قلت لعثمان هذه الآية، { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم } قد نسختها الآية الآخرى فلم تكتبها، قال لا أغير شيئاً منه عن مكانه بابن أخي» فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان «لا أغير شيئاً منه عن مكانه» ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث. وفي البخاري قال مجاهد «شرع الله العدة أربعة أشهر وعشراً تعتد عند أهل زوجها واجباً، ثم نزلت { وصية لأزواجهم } فجعل الله لها تمام السنة وصية، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين، فكان ذلك حقها في تركة زوجها، ثم نسخ ذلك بالميراث» فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولاً إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولاً مراعاة لما كانوا عليه، ويكون الحول تكميلاً لمدة السكنى لا للعدة، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب، وهو المقبول. واعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولاً، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالىفلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف } البقرة 234 عن «الموطأ»، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة، وشرع عدة الوفاة والإحداد، فلما ثقل ذلك على الناس، في مبدأ أمر تغيير العادة، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقاً عليها لا تستطيع تركه، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث، فاللَّه لما أراد نسخ عدة الجاهلية، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم، أقر الاعتداد بالحول، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى، وعلى قبول الزوجة ذلك، فإن لم يوص لها أو لم تقبل، فليس عليها السكنى، ولها الخروج، وتعتد حيث شاءت، ونسخ { وصية } السكنى حولاً بالمواريث، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعاً بحديث الفُريعة.

السابقالتالي
2 3