الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ }

الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني، أو في انسجام نظم الكلام، فلعل آية { حافظوا على الصلوات } نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد. وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية ابتداء من قولهيسألونك ماذا ينفقون } البقرة 215، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قولهوأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم } البقرة 237 فإن الله دعانا إلى خلق حميد، وهو العفو عن الحقوق، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم، من مال وغيره كالانتقام من الظالم، وكان في طباع الأنفس الشح، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين، أحدهما دنيوي عقلي، وهو قوله { ولا تنسوا الفضل بينكم } ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك، إذا تعارف الناس الفضل بينهم، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق. الدواء الثاني أخروي روحاني وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق، حث الله على المحافظة عليها. ولك أن تقول لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر، قال البيضاوي «أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها». وقال بعضهم «لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله» وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآيةكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } البقرة 239 أي من قوانين المعاملات النظامية.

السابقالتالي
2 3 4