الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

عطف على الجملة التي قبلها، فهذا من الأحكام المتعلقة بالعدة، وقد تضمنت الآيات التي قبلها أحكام عدة الطلاق وعدة الوفاة، وأن أمد العدة محترم، وأن المطلقات إذا بلغن أجلهن جاز أن يفعلن في أنفسهن ما أردن من المعروف، فعلم من ذلك أنهن إذا لم يبلغنه لا يجوز ذلك فالتزوج في مدة الأجل حرام، ولما كان التحدث في التزوج إنما يقصد منه المتحدث حصول الزواج، وكان من عادتهم أن يتسابقوا إلى خطبة المعتدة ومواعدتها، حرصاً على الاستئثار بها بعد انقضاء العدة فبينت الشريعة لهم تحريم ذلك، ورخصت في شيء منه ولذلك عطف هذا الكلام على سابقه. والجناح الإثم وقد تقدم في قوله تعالىفلا جناح عليه أن يطوف بهما } البقرة 158. وقوله { ما عرضتم به } ما موصولة، وما صْدَقها كلام، أي كلام عرضتم به، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام، وقد بينه بقوله { من خطبة النساء } فدل على أن المراد كلام. ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر، مشتقة من العرض ــــ بضم العين ــــ وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب، والجانب هو الطرف، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب. ونظير هذا قولهم جَنَبَه، أي جعله في جانب. فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي، فعلم ألا بد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود، وتلك المناسبة إما ملازمة أو مماثلة، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله
إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء   
وجعل الطيبي منه قوله تعالىوإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلٰهين من دون الله } المائدة 116. فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة، وكقول القائل «المسلم من سلم المسلمون من لسانه» في حضرة من عرف بأذى الناس، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة ـــ لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله ـــ صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة، وإن شئت قلت المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب «الكشاف» في هذا المقام، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيهاً بها، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما، فالنسبة بينهما عنده التباين.

السابقالتالي
2 3 4 5