الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَٰنٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا ٱفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ }

استئناف لذكر غاية الطلاق الذي يملكه الزوج من امرأته، نشأ عن قوله تعالىوبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً ٱلطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ } البقرة 228 وعن بعض ما يشير إليه قوله تعالىوللرجال عليهن درجة } البقرة 228 فإن الله تعالى أعلن أن للنساء حقاً كحق الرجال، وجعل للرجال درجة زائدة منها أن لهم حق الطلاق، ولهم حق الرجعة لقولهوبعولتهن أحق بردهن في ذلك } البقرة 228 ولما كان أمر العرب في الجاهلية جارياً على عدم تحديد نهاية الطلاق، كما سيأتي قريباً، ناسب أن يذكر عقب ذلك كله حكم تحديد الطلاق، إفادة للتشريع في هذا الباب ودفعاً لما قد يعلق أو علق بالأوهام في شأنه. روى مالك في جامع الطلاق من «الموطأ» «عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألفَ مرة فعمَد رجلٌ إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبداً فأنزل الله تعالى { الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان } فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذٍ من كان طلق منهم أو لم يطلق». وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قريباً منه. ورواه الحاكم في «مستدركه» إلى عروة بن الزبير عن عائشة قالت لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال والله لا تركتك لا أَيماً ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مراراً فأنزل الله تعالى { الطلاق مرتان } ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه، وفي «سنن أبي داود» باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل { الطلاق مرتان } ، فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة. والتعريف في قوله الطلاق تعريف الجنس على ما هو المتبادر في تعريف المصادر وفي مساق التشريع، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية، نحو قولهوأحل الله البيع } البقرة 275 وقولهوإن عزموا الطلاق } البقرة 227 وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب «الكشاف» إلى اختياره، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفاً في قولهوبعولتهن أحق بردهن في ذلك } البقرة 228 فإنه الطلاق الأصلي، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته، إلاّ الطلقة الواقعة ثالثة، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعدُ وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة بعد أن تَلاعنا، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها، وحُذف وصف الطلاق، لأن السياق دال عليه، فصار التقدير الطلاق الرجعي مرتان.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9