الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

هذه الجملة تذييل ثان لجملةفأتوهن من حيث أمركم } البقرة 222 قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى «لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً إنها لبلادُهم» وتعتبر جملة { نساؤكم حرث } مقدِّمة لجملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة { فأتوا حرثكم أنى شئتم } ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة. والحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول. وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالىوقالوا هذه أنعام وحرث حجر } الأنعام 138 أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها. وقالوالخيل المسومة والأنعام والحرث } آل عمران 14 أي الجنات والحوائط والحقول. وقالكمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته } آل عمران 117 أي أهلكت زرعهم. وقالفتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين } القلم 22 يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر. والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل { فأتوا حرثكم } وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبي - صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ". والفاء في { فأتوا حرثكم أنى شئتم } فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال. وكلمة أنى اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها، وقد كثر استعماله مجازاً في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحوكيف يشاء } آل عمران 6 وقال في «لسان العرب» إن أنى تكون بمعنى متى، وقد أضيف أنى في هذه الآية إلى جملة شئتم والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل أني على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان. إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم، فمنهم من جعلوه ظرفاً لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في «صحيح البخاري» تفسيراً من ابن عمر، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور بــــمن ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه.

السابقالتالي
2 3 4