الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }

{. من أهم تفاصيل الأحوال في القتال الذي كتب على المسلمين في الآية قبل هذه، أن يعلموا ما إذا صادف القتال بينهم وبين المشركين الأشهرَ الحُرمَ إذ كان محجراً في العرب من عهد قديم، ولم يذكر الإسلام إبطال ذلك الحجر لأنه من المصالح قال تعالىجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام } المائدة 97 فكان الحال يبعث على السؤال عن استمرار حرمة الشهر الحرام في نظر الإسلام. روى الواحدي في «أسباب النزول» عن الزهري مرسلاً وروى الطبري عن عروة بن الزبير مرسلاً ومطوَّلاً، أن هذه الآية نزلت في شأن سَريَّة عبد الله بن جَحْش، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرسله في ثمانية من أصحابه يتلقّى عيراً لقريش ببطن نَخْلَةَ في جمادى الآخرة في السنة الثانية من الهجرة، فلقي المسلمون العير فيها تجارة من الطائف وعلى العير عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، فقتل رجل من المسلمين عَمْراً وأسر اثنين من أصحابه وهما عثمان بن عبد الله بن المغيرة والحكم بن كيسان وفر منهم نوفل بن عبد الله بن المغيرة وغنم المسلمون غنيمة، وذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فعظم ذلك على قريش وقالوا استحل محمد الشهر الحرام وشنعوا ذلك فنزلت هذه الآية. فقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم رد عليهم الغنيمة والأسيرين، وقيل رد الأسيرين وأخذ الغنيمة. فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آيةكتب عليكم القتال وهو كره لكم } البقرة 216 وآيةوقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم } البقرة 190 بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالاً لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآيةالشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام } البقرة 194. والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى { الشهر الحرام بالشهر الحرام }. وهذا هو المناسب لقوله هنا { وصد عن سبيل الله } إلخ وقيل سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آيةكتب عليكم القتال } البقرة 216 ظاهرة. والتعريف في الشهر الحرام تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله { قتال فيه } ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله فيه يجعلها في قوة المعرفة. فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال، فإن كان السؤال إنكارياً من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر، وإن كان استفساراً من المسلمين فكذلك، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد