الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ سَلْ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }

تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلةَ البرهان على معنى الجملة السابقة، فإن قولههل ينظرون } البقرة 210 سواء كان خبراً أو وعيداً أو وعداً أم تهكماً، وأيّاً ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بِفرَقٍ ذَوي غُرور وتماد في الكفر وقلةِ انتفاع بالآيات البينات، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلَغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أُوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غَناء الآيات لديهم على كثرتها، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيماناً ضعيفاً ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلاً. وعلى احتمال أن يكون الضمير فيينظرون } البقرة 210 لأهل الكتاب أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله { بني إسرائيل } لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذٍ أشد، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان المناسب لهم أن يبادوا بالإيمان بالرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة. و { سَلْ } أمر من سأل يسأل أصله اسأل فحذفت الهمزة تخفيفاً بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها إلحاقاً لها بنقل حركة حرف العلة لشبه الهمزة بحرف العلة فلما تحرك أول المضارع استغنى عن اجْتلاب همزة الوصل، وقيل سل أمر من سَألَ الذي جعلت همزته ألفاً مثل الأمر من خَاف يَخاف خَف، والعرب يكثرون من هذا التخفيف في سأل ماضياً وأمراً إلاّ أن الأمر إذا وقع بعد الواو والفاء تركوا هذا التخفيف غالباً. والمأمور بالسؤال هو الرسول لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله إذ لا يعبأون بسؤال غيره لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع، ولفظ السؤال يجيء لما تجيء له أدوات الاستفهام. والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجيء من هذا التقرير التقريعُ فليس المقصود تصريحهم بالإقرار بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار. والمراد بــــ بني إسرائيل الحاضرون من اليهود. والضمير في { آتيناهم } لهم، والمقصود إيتاء سلفهم لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم. ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آياتِ رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة. وكم اسم للعدد المبهم فيكون للاستفهام ويكون للإخبار، وإذا كانت للإخبار دلت على عدد كثير مبهم ولذلك تحتاج إلى مميز في الاستفهام وفي الإخبار، وهي هنا استفهامية كما يدل عليه وقوعها في حيز السؤال، فالمسؤول عنه هو عدد الآيات. وحق سأل أن يتعدى إلى مفعولين من باب كَسَا أي ليس أصلُ مفعوليه مبتدأً وخبراً، وجملة { كم آتيناهم } لا تكون مفعوله الثاني إذ ليس الاستفهام مطلوباً بل هو عين الطلب، ففعل { سَلْ } معلَّق عن المفعول الثاني لأجل الاستفهام، وجملة { كم آتيناهم } في موقع المفعول الثاني سادة مسده.

السابقالتالي
2 3 4 5