الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

استئناف ابتدائي ثني به العِنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالاً للمؤمنين وأضدادِهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشاداً لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفاً من سوء صنعهم حائلاً دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصاً على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحاً وحباً لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم إلى مصالحهم. وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحساناً وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظَّه منه. فالمقصود بالنداء من قوله { يأيها الناس } الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيأيها الناس، وقرينة ذلك هنا قولهفلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } البقرة 22 وافتتح الخطاب بالنداء تنويهاً به. ويا حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالاً فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلاً كان مشتركاً لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس». قال الرضي في «شرح الكافية» إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلافُ الأصل، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في «الكشاف» «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلاً له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل». وأيٌّ في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو أيُّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يأيها الرجل، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذٍ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفاً باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفنناً فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذٍ مع اللام باسم إشارة إغراقاً في تعريفه ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذٍ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.

السابقالتالي
2 3 4 5 6