الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱدْخُلُواْ فِي ٱلسِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ ٱلشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } * { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

استئناف على طريقة الاعتراض انتهازاً للفرصة بالدعوة إلى الدخول في السلم، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب، أعلاهامن يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله } البقرة 207 لأن النفس أغلى ما يبذل، وأقلهامن يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام } البقرة 204 أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ذلك أن يدعى الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم. والخطاب بيأيها الذين آمنوا خطاب للمسلمين على عادة القرآن في إطلاق هذا العنوان، ولأن شأن الموصول أن يكون بمنزلة المعرف بلام العهد. والدخول حقيقته نفوذ الجسم في جسم أو مكان محوط كالبيت والمسجد، ويطلق مجازاً مشهوراً على حلول المكان الواسع يقال دخل بلاد بني أسد وهو هنا مستعار للاتباع والالتزام وشدة التلبس بالفعل. والسَّلم بفتح السين وكسرها مع سكون اللام، قرأ نافع وابن كثير والكسائي وأبو جعفر بفتح السين وقرأ باقي العشرة بكسر السين، ويقال سلم بفتح السين واللام قال تعالىولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمناً } النساء 94 وحقيقة السلم الصلح وترك الحرب قال عباس بن مرداس
السَّلْمُ تأْخُذُ منها ما رَضِيتَ به والحَرْبُ تَكْفِيك من أَنْفَاسِها جُزَع   
وشواهد هذا كثيرة في كلامهم وقال زهير
وقد قلتما إن ندرك السِّلم واسعاً   
بكسر السين واشتقاقه من السلامة وهي النجاة من ألم أو ضر أو عناد يقال أسلم نفسه لفلان أي أعطاه إياها بدون مقاومة، واستسلم طلب السِّلم أي ترك المقاومة، وتقول العرب أسلم أم حرب، أي أأنت مسالم أم محارب، وكلها معان متولد بعضها من بعض فلذلك جزم أئمة اللغة بأن السلم بكسر السين وفتحها وبالتحريك يستعمل كل واحد منها فيما يستعمل فيه الآخر. قالوا ويطلق السلم بلغاته الثلاث على دين الإِسلام ونسب إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة وأنشدوا قول امرىء القيس بن عابس الكندي في قضية ردة قومه
دَعَوْت عشيرتي للسَّلْم لَمَّا رأيتهموا تَوَلَّوْا مُدبرينا فلستُ مبدِّلاً بالله ربا ولا مستبدلاً بالسَّلم دينا   
وهذا الإطلاق انفرد بذكره أصحاب التفسير ولم يذكره الراغب في «مفردات القرآن» ولا الزمخشري في «الأساس» وصاحب «لسان العرب» وذكره في «القاموس» تبعاً للمفسرين وذكره الزمخشري في «الكشاف» حكاية قول في تفسير السِّلم هنا فهو إطلاق غير موثوق بثبوته وبيت الكندي يحتمل معنى المسالمة أي المسالمة للمسلمين ويكون قوله «دينا» بمعنى العادة اللازمة كما قال المثقب العبدي
تقول وقد أدرت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني   

السابقالتالي
2 3 4 5