الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }

الأظهر أن تكون جملة { يجعلون } حالاً اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة، وأما جملة { يكاد البرق } فيجوز كونها حالاً من ضمير { يجعلون } ، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافاً لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد. وجملة { كلما أضاء لهم مشوا فيه } حال من البرق أو من ضمير أبصارهم لا غير، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه. وقوله { كلما أضاء لهم } تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق. وقوله { والله محيط بالكافرين } اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل. وقوله { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة { ولو شاء الله } راجعة إلى أصل الكلام، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق. فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلاً عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع، يقال فلان يرعد ويبرق، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولاً، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله { والله محيط بالكافرين } وقوله { ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم } فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيهاً على وجه الشبه وتقريراً لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز. وجعل في «الكشاف» الجمل الثلاث مستأنفاً بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافاً عن جملةأو كصيب } البقرة 19 والثانية وهي { يكاد البرق } مستأنفة عن جملة { يجعلون } لأن الصواعق تستلزم البرق، والثالثة وهي { كلما أضاء لهم مشوا } مستأنفة عن قوله { يكاد البرق } والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفاً. والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب «الكشاف» بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله

السابقالتالي
2 3 4