الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }

جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالاً لما كان عليه المشركون، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حراماً. فالفضل هنا هو المال، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالىوآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله } المزمل 20. وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة
كادَتْ تُسَاقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتِي بذِي المجاز ولم تُحسس به نَغَما من صَوْتِ حِرْمِيَّةٍ قالتْ وقد ظعنوا هل في مُخِفِّيكُمُ مَنْ يشتري أَدَما قلتُ لهَا وهي تَسْعَى تحتَ لَبَّتِها لا تَحْطِمنَّكِ إن البيعَ قد زَرِما   
أي انقطع البيع وحَرُم، وعن ابن عباس كانت عكاظ ومَجَنَّة، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في موسم الحج اهــــ. أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج. وقد كانت سوق عكاظ تفتح مستهل ذي القعدة وتدوم عشرين يوماً وفيها تباع نفائس السلع وتتفاخر القبائل ويتبارى الشعراء، فهي أعظم أسواق العرب وكان موقعها بين نَخْلَةَ والطائف، ثم يخرجون من عكاظ إلى مَجِنَة ثم إلى ذي المَجاز، والمظنون أنهم يقضون بين هاتين السوقين بقية شهر ذي القعدة لأن النابغة ذكر أنه أقام بذي المجاز أربع ليال وأنه خرج من ذي المجاز إلى مكة فقال يذكر راحلته
باتَت ثلاثَ ليالٍ ثم واحِدَةً بذي المجاز تُراعِي مَنْزِلاً زِيَمَا   
ثم ذكر أنه خرج من هنالك حاجّاً فقال
كادَتْ تُساقِطني رَحْلي ومِيثَرَتِي   
الفاء عاطفة على قولهفلا رفث ولا فسوق } البقرة 197 الآية، عطف الأمر على النهي، وقوله إذا أفضتم شرط للمقصود وهو فاذكروا الله. والإفاضة هنا الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسالَ ولذلك سموا إحالة القِداح في المَيْسر إفَاضَةً والمجيلَ مُفيضاً، لأنه يُخْرِج القِدَاح من الرِّبَابَة بقوة وسرعة أي بدون تَخَيُّر ولا جَسَ لينظر القدح الذي يخرج، وسمَّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة. والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدَّفْع، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة، وكلا الإطلاقين مجاز لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة. ولأن في تجنُّب دَفَعْتُم تجنباً لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفععِ بعض الناس بعضاً لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضَوْضَاء وجلبة وسرعةَ سير فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في حجة الوداع وقال

السابقالتالي
2 3 4