الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَافِرِينَ } * { فَإِنِ ٱنتَهَوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

{. هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عَمَّمَ المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحاً بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تَعْمِيمَ الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم. وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغَى فحصلت المغايرة المقتضية العطف، ولذلك قال هنا واقتلوهم وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ } ولم يقل وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيهاً على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غيرَ مباشر للقتال وأنه من خرج محارباً فهو قاتل وإن لم يَقْتُلْ. و { ثقفتموهم } بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفِعله كفرح، وفسره في «الكشاف» بأنه وجود على حالة قهر وغلبة. وقوله { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالىلقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام } الفتح 27 الآية. وقوله { والفتنة أشد من القتل } تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخَطَابيِّ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه. والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْششِ وقد تقدمت عند قوله تعالىحتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } البقرة 102، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعاً من مؤاخذتهم عليه وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل، ويراد منها أيضاً الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل. الجملة معطوفة على جملة { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله { حيث ثقفتموهم } أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله

السابقالتالي
2 3 4 5