الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ }

{ أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَـٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ }. عطف على التمثيل السابق وهو قولهكمثل الذي استوقد ناراً } البقرة 17 أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه. وقد استقريْتُ من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرىء القيس في معلقته
أصاحِ ترى برقاً أُريك وميضَه كلمعِ اليدين في حَبِيَ مُكَلَّل يُضيءُ سَناه أو مصابيحِ راهب أَمال السليطَ بالذُّبال المُفَتَّل   
وقولِ لَبيد في معلقته يصف راحلته
فلها هِبَاب في الزمام كأنها صهباءُ خفَّ مع الجَنوب جَهَامها أو مُلْمِعٌ وسَقَتْ لأَحْقَبَ لاَحَه طَرْدُ الفُحول وضَرْبُها وكِدَامُها   
وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما
أَفتلك أم وحْشية مسبوعة خذلت وهادية الصِّوار قِوامها   
وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث
وثْبَ المُسَحَّجِ من عَانَاتِ مَعْقُلَةٍ كأنَّه مستبان الشَّكِّ أو جَنِبُ   
ثم قال
أذاك أم نَمِشٌ بالوشْي أَكْرُعُه مسفَّع الخَد غَادٍ نَاشِعٌ شَبَبُ   
ثم قال
أَذاك أم خاضب بالسَّيِّ مَرْتَعُه أبو ثلاثين أَمسى وهو مُنْقلب   
وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالىضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون } الزمر 29 الآية ثم قالوضرب الله مَثَلاً رجلين } النحل 76 الآية. وقولهوما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور } فاطر 19 ـــ 21 الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالىحتى جعلناهم حصيداً خامدين } الأنبياء 15 وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفرداً تعز استطاعةُ تكريره. وأو عطفت لفظ صيب علىالذي استوقد } البقرة 17 بتقدير مَثَل بين الكاف وصيب. وإعادةُ حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسَّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه وهم في الغالب لا يكررونه في العطف. والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مُثِّلتْ في قوله تعالىمَثَلُهم كمَثَل الذي استوقد } البقرة 17 بنوع إطلاق وتقييد. فقوله { أَو كصيب } تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله { كمثل الذي استوقد } دل على تقدير قوم قوله { يجعلون أصابعهم في آذانهم } وقولُه

السابقالتالي
2 3