الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ بِٱلإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

عطف جملة على جملة، والمناسبة أن قولهتلك حدود الله فلا تقربوها } البقرة 187 تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام. كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر، ومن غصب القوي مال الضعيف، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى، ومن الغرر والمقامرة، ومن المراباة ونحو ذلك، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس. والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى. والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه «ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح»، فلا يعد الهواء مالاً، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً، ولا التراب مالاً، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً، وتراب المقاطع مالاً، والحشيش والحطب مالاً، وما ينحته المرء لنفسه في جبلٍ مالاً. والمالُ ثلاثة أنواع النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب، والثمار، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالىوجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين } النحل 80 وقاللتركبوا منها ومنها تأكلون } غافر 79 وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير
صَحِيحَاتِ مَالٍ طَالِعَاتٍ بمَخْرَم   
وقال عمر " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " ، وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه، وفي الحديث " يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت " فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.

السابقالتالي
2 3 4 5