الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى ٱلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

حكم الصيام حكم عظيم من الأحكام التي شرعها الله تعالى للأمة، وهو من العبادات الرامية إلى تزكية النفس ورياضتها، وفي ذلك صلاح حال الأفراد فرداً فرداً إذ منها يتكون المجتمع. وفصلت الجملة عن سابقتها للانتقال إلى غرض آخر، وافتتحت بيٰأيها الذين آمنوا لما في النداء من إظهار العناية بما سيقال بعده. والقول في معنى كتب عليكم ودلالته على الوجوب تقدم آنفاً عند قوله تعالىكتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية } البقرة 180 الآية. والصيام ــــ ويقال الصوم ــــ هو في اصطلاح الشرع اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله. والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة، وقياس المصدر الصوم، وقد ورد المصدران في القرآن، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلاّ على ترك كل طعام وشراب، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياماً كما قال العرجي
فإنْ شِئتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِوَاكُمُ وإِنْ شِئْتتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً ولاَ بَرْدَا   
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة
خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة تحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلكُ اللُّجُمَا   
وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب
حتى إِذا سَلَخَا جُمَادى سِتَّة جَزْءًا فطَال صيامُه وصِيامُها   
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي، لا يصح، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في «الأساس» وغيره، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسىفقولي إني نذرت للرحمٰن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً } مريم 26 فليس إطلاقاً للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل. فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في «الصحيحين» عن عائشة قالت «كان يومُ عاشُوراءَ يوماً تصومه قريش في الجاهلية» وفي بعض الروايات قولها «وكان رسول الله يصومه» وعن ابن عباس " لما هاجر رسول الله إلى المدينة وَجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال ما هذا، فقالوا هذا يومٌ نجَّى الله فيه موسى، فنحن نصومه فقال رسول الله نحن أحق بموسى منكم فصام وأمر بصومه "

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد