الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى ٱلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

الضمائر البارزة في بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظالوصية } البقرة 180، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله { سَمِعَهُ } إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله { الوصية } أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالىاعدلوا هو أقرب للتقوى } المائدة 8، ولك أن تجعل الضمير عائداً إلىالمعروف } البقرة 180، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف، لأن الإثم في تبديل المعروف، بدليل قوله الآتيفمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه } البقرة 182. والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص وما صْدَقُ مَنْ بدَّله هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدةلانشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين } المائدة 106 فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف { بعدما سمعه } تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلاّ فإن التبديل لا يتصور إلاّ في معلوم مسموع إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول. والقصر في قوله { فإنما إثمه } إضافي، لنفي الإثم عن الموصي وإلاّ فإن إثمه أيضاً يكون على الذي يأخذ ما لم يجعله له الموصي مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحُكم لا يحل حراماً، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار " ، وإنما انتفى الإثم عن الموصي لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به، إذألا تزر وٰزرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى } النجم 38 ــــ 39. والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألاّ ينفذها الموكول إليهم تنفيذُها، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه، وقد دل قوله { فإنما إثمه على الذين يبدلونه } أن هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاةُ الأمور على يد من يحاول هذا التبديل لأن الإثم لا يقرر شرعاً. وقوله { إن الله سميع عليم } وعيد للمبدل، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجارُوا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل، وإذا كان سميعاً عليماً وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بإن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله { فمن بدله } لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنَّ الله عالم فلذلك أَكِّد له الحكم تنزيلاً له منزلة المنكر.