الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

أعيد الخطاب بيأيُّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذات استقلال بنفسها ومديِنتها، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعدَ هذاوقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم } البقرة 190 الآية. تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع، وابتُدىء بأحكام القصاص، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلالُ حفظ نفوس الأمة، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل، يَعلم ذلك مَنْ له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المُغَار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في قَتْل قاتِل وليِّه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحدٍ كفءٍ له، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأنَّ دم الشريف يُكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً قال زهير
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وذُبْيَانَ بعدَما تَفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِم   
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرْهبوهم، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالىوَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } آل عمران 103 أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام، وكنتم على وَشْك الهلاك فأنقذكم منه فضَرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلاّ أقلُّ حركة. فمعنى { كتب عليكم } أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير { عليكم } لمجموع الأمة على الجملة لمن توجه له حق القصاص وليس المراد على كل فرد فرد القصاص، لأن ولي الدم له العفو عن دم وليه كما قال تعالى { فمن عفى له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف } وأصل الكتابة نقش الحروف في حَجَر أَوْ رَقِّ أو ثوب ولما كان ذلك النقش يراد به التوثق بما نقش به دوام تذكره أطلق كُتِب على معنى حَقَّ وثبت أي حق لأهل القتيل. والقصاص اسم لتعويض حق جنايةٍ أو حق غُرْم على أحد بمثل ذلك من عند المحقوق إنصافاً وعدلاً، فالقصاص يطلق على عقوبة الجاني بمثل ما جنَى، وعلى محاسبة رب الدين بما عليه للمدين من دين يفي بدينه، فإطلاقاته كلها تدل على التعادل والتناصف في الحقوق والتبعات المعروضة للغمص.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9