الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

عود إلى محاجَّة أهل الكتاب لاَحِقٌ بقوله تعالىإن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } البقرة 159 بمناسبة قولهإنما حرم عليكم الميتة والدم } البقرة 173 تحذيراً للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يَقْرؤا من كتابهم ما غَيَّروا العمل بأحكامه كما قال تعالىتجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً } الأنعام 91 كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود، ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } لقصد المشاكلة. وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملوناً بلوني الغَرض السابق والغرض اللاحق. وعُدل عن تعريفهم بغير الموصول إلى الموصول لما في الصلة من الإيماء إلى سبب الخبر وعلته نحو قوله تعالىإن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين } غافر 60. والقول في الكتمان تقدم عند قوله تعالىإن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى } البقرة 159 والكتاب المذكور هنا هو الكتاب المعهود من السياق وهو كتاب { الذين يكتمون } ، فيشبه أن تكون أل عوضاً عن المضاف إليه، والذين يكتمونه هم اليهود والنصارى أي يكتمون البشارة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ويكتمون بعض الأحكام التي بدلوها. وقوله { ويشترون به ثمناً قليلاً } تقدم تفسيره عند قوله تعالىولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } البقرة 41 وهو المال الذي يأخذونه من الناس جزاء على إفتائهم بما يلائم هواهم مخالفاً لشرعهم أو على الحكم بذلك، فالثمن يطلق على الرشوة لأنها ثمن يدفع عوضاً عن جور الحاكم وتحريف المفتي. وقوله { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } جيء باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبلَ اسم الإشارة، كما تقدم في قوله تعالىأولئك على هدى من ربهم } البقرة 5، وهو تأكيد للسببية المدْلول عليها بالموصول، وفعل { يأكلون } مستعار لأخذ الرُّشَا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلاّ النارَ لأنه الأصل في المضارع. والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يَظهر كحال الرشوة، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكْلُ نار تعين أن في الكلام مجازاً، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعني الرشوة، قال التفتازاني وهو الذي يوهمه ظاهر كلام «الكشاف» لكنه صرح أخيراً بغيره، وقيل هو مجاز في الطَّرَف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطْلاقاً للاسم على سببه قال التفتازاني وهو الذي صرح به في «الكشاف» ونظَّره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يَقْلاَها

السابقالتالي
2