الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ٱتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }

الأحسن عندي أن يكون عطفاً على قولهولا تتبعوا خطوات الشيطان } البقرة 168، فإن المقصود بالخطاب في ذلك هم المشركون فإنهم الذين ائتمروا لأمره بالسوء والفحشاء، وخاصة بأن يقولوا على الله ما لا يعلمون، والمسلمون مُحَاشَوْن عن مجموع ذلك. وفي هذه الآية المعطوفة زيادة تفظيع لحال أهل الشرك، فبعد أن أثبت لهم اتباعهم خطوات الشيطان فيما حَرَّموا على أنفسهم من الطيبات، أعقب ذلك بذكر إعراضهم عمن يدعوهم إلى اتباع ما أنزل الله، وتشبثوا بعدم مخالفتهم ما أَلْفَوا عليه آباءهم، وأعرضوا عن الدعوة إلى غير ذلك دون تأمل ولا تدبر. { بل } إضراب إبطال، أي أضربوا عن قول الرسول، { اتَّبِعوا ما أنزل الله } ، إضرابَ إعراض بدون حجة إلاّ بأنه مخالف لما ألفوا عليه آباءهم. وفي ضمير لهم التفات من الخطاب الذي في قولهولا تتبعوا خطوات الشيطان } البقرة 168. والمراد بما ألْفَوْا عليه ءَاباءهم، ما وَجَدوهم عليه من أمور الشرك كما قالواإنا وجدنا أباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } الزخرف 23 والأمة الملة وأعظم ذلك عبادة الأصنام. وقوله { أولو كان أباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون } كلام من جانب آخر للرد على قولهم { نتبع ما ألفينا عليه آباءنا } ، فإن المتكلم لما حكاه عنهم رد قولهم هذا باستفهام يُقصد منه الرد ثم التعجيب، فالهمزة مستعملة في الإنكار كنايةً وفي التعجيب إيماءً، والمراد بالإنكار الرد والتخطئة لا الإنكار بمعنى النفي. ولو للشرط وجوابها محذوف دل عليه الكلام السابق، تقديره لاتَّبَعُوهم، والمستفهم عنه هو الارتباط الذي بين الشرط وجوابه، وإنما صارت الهمزة للرد لأجل العلم بأن المستفهمَ عنه يجاب عنه بالإثبات بقرائن حال المخبر عنه والمستفهِم. ومثل هذا التركيب من بديع التراكيب العربية وأعلاها إيجازاً ولو في مثله تسمى وصلية وكذلك إِنْ إذا وقعت في موقع لو. وللعلماء في معنى الواو وأداةِ الشرط في مثله ثلاثة أقوال القول الأول إنها للحال وإليه ذهب ابن جني والمرزوقي وصاحب «الكشاف» قال ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول عمرو بن معديكرب
لَيْسَ الجَمَال بِمِئْزرٍ فاعْلَمْ وإِنْ رديتَ بُرْدا   
ونحو منه بيت «الكتاب "
عَاودْ هَرَاةَ وإِنْ مَعْمُورُهَا خَرِبا   
وذلك أن الواو وما بعدها منصوبة الموضع بعَاوِدْ كما أنها وما بعدها في قوله وإن رديت بردا منصوبة الموضع بما قبلها وقريب من هذا أزورك راغباً فيَّ وأحسن إليك شاكراً إليَّ، فراغباً وشاكراً منصوبان على الحال بما قبلهما وهما في معنى الشرط وما قبلهما نائب عن الجواب المقدر لهما ألا ترى أن معناه إن رغبت فيَّ زرتك وإن شكرتني أحسنت إليك، وسألت مرة أبا علي عن قوله
عَاوِدْ هَرَاةَ وإنْ معمورها خَرِبا   
كيف موقع الواو هنا وأومأت في ذلك له إلى ما نحن بصدده فرأيتُه كالمُصَانِع في الجواب لا قُصُوراً بحمدِ الله عنه ولكنْ فتوراً عن تكلفه فأَجْمَمْتُه، وقال المرزوقي هنالك قوله «وإنْ ردّيت بردا» في موضع الحال كأنه قال ليس جمالك بمئزر مردَّى معه برد والحال قد يكون فيه معنى الشرط كما أن الشرط فيه معنى الحال فالأول كقولك لأفعلنَّه كائناً ما كان أي إن كان هذا أو إن كان ذاك، والثاني كبيت «الكتاب "

السابقالتالي
2 3 4