الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ }

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ }. الإشارة إلى من يقولآمنا بالله وباليوم الآخر } البقرة 8 وما عطف على صلته من صفاتهم وجىء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق «من» هو فريق من الناس، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنىويمدهم في طغيانهم يعمهون } البقرة 15 فمضمونها بمنزلة التوكيد، وذلك مما يقتضي الفصل، ولتفيد تعليل مضمون جملة { ويمدهم في طغيانهم يعمهون } فتكون استئنافاً بيانياً لسائل عن العلة، وهي أيضاً فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالىتلك عشرة كاملة } البقرة 196، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل. وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملةأولئك على هدى من ربهم } البقرة 5 ومقابل موقع جملةختم الله على قلوبهم } البقرة 7 الآية. واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ. وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيراً ناشئاً عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالىذلك الكتاب } البقرة 2 ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى { ذلك الكتاب } مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم. وعكس هذا قول قيس بن الخطيم
متى يأتِ هذا الموتُ لا يُلْفِ حاجة لنفسي إلا قد قضيت قضاءها   
فإن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به. والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئاً لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضياً آخذين وباذلين كان كل منهما بائعاً ومبتاعاً باختلاف الاعتبار، ففعل باع منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذاً لما صار بيده عَبَّر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلاً لما خرج من يده من العوض، عَبَّر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سَنَن واحد، وقد ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرَّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالىوشَرَوْه بثمن بخس دراهمَ معدودةٍ } يوسف 20 فتوهموا الضمير عائداً إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى

السابقالتالي
2 3 4