الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ ٱللَّهِ فَمَنْ حَجَّ ٱلْبَيْتَ أَوِ ٱعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ }

هذا كلام وقع معترضاً بين محاجة أهل الكتاب والمشركين في أمر القبلة، نزل هذا بسبب تردد واضطراب بين المسلمين في أمر السعي بين الصفا والمروة وذلك عام حجة الوداع، كما جاء في حديث عائشة الآتي، فهذه الآية نزلت بعد الآيات التي قبلها وبعد الآيات التي نقرؤها بعدَها، لأن الحج لم يكن قد فُرِض، وهي من الآيات التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإلحاقها ببعض السُّوَر التي نزلت قبل نزولها بمدة، والمناسبةُ بينها وبين ما قبلها هو أن العدول عن السعي بين الصفا والمروة يشبه فعل من عبر عنهم بالسفهاء من القبلة وإنكار العدول عن استقبال بيت المقدس، فموقع هذه الآية بعد إلحاقها بهذا المكان موقعُ الاعتراض في أثناء الاعتراض، فقد كان السعي بين الصفا والمروة من أعمال الحج من زمن إبراهيم - عليه السلام - تذكيراً بنعمة الله على هاجر وابنها إسماعيل إذ أنقذه الله من العطش كما في حديث البخاري في كتاب بدء الخلق عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أن هاجر أم إسماعيل لما تركها إبراهيم بموضع مكة ومعها ابنها وهو رضيع وترك لها جِراباً من تمر وسِقاءً فيه ماء، فلما نفد ما في السقاء عطشت وعطش ابنها وجعلت تنظُر إليه يَتَلَوَّى فانطلقتْ كراهيةَ أن تنظُرَ إليه فوجدت الصفا أقرب جبل يليها فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً فهبطت من الصفا وأتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً فلم ترَ أحداً ففعلت ذلك سبع مرات، قال ابن عباس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - فلذلك سَعَى الناسُ بينهما، فسَمِعَت صوتاً فقالت في نفسها صه ثم تسمَّعَتْ فسَمِعَتْ أيضاً فقالت قد أَسْمَعْتَ إن كان عندَكَ غُواث، فإذا هي بالمَلك عند موضع زمزم فبحثَ بعقبه حتى ظهر الماء فشربت وأرضعَتْ ولَدَها» " ، فيحتمل أن إبراهيم سَعَى بين الصفا والمروة تذكُّراً لشكر النعمة وأمَرَ به إسماعيل، ويحتمل أن إسماعيل ألحقهُ بأفعال الحج، أو أن من جاء من أبنائه فَعَل ذلك فتقرر في الشعائر عند قريش لا محالة. وقد كان حوالي الكعبة في الجاهلية حجران كانا من جملة الأصنام التي جاء بها عَمْرو ابن لُحَيَ إلى مكة فعبدها العرب إحداهما يسمى إِسَافاً والآخر يُسمى نَائِلَةَ، كان أحدهما موضوعاً قرب جدارِ الكعبة والآخر موضوعاً قرب زمزم، ثم نقلوا الذي قرب الكعبة إلى جهة زمزم، وكان العرب يذبحون لهما، فلما جَدَّد عبد المطلب احتفار زمزم بعد أن دثَرَتْها جُرْهُمُ حين خروجِهم من مكة وبنَى سقاية زمزم نقل ذينك الصنمين فوضع إِسافاً على الصفا ونائلةَ على المروة، وجعل المشركون بعد ذلك أصناماً صغيرة وتماثيل بين الجبلين في طريق المسعى، فتوهم العرب الذين جاءوا من بعد ذلك أن السعي بين الصفا والمروة طواف بالصنمين، وكانت الأوس والخزرج وغسان يعبدون مناة وهو صنم بالمُشَلَّلِ قُرْب قُدَيْد فكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة تحرجاً من أن يطوفوا بغير صنمهم، في البخاري فيما علَّقه عن معمر إلى عائشة قالت «كان رجال من الأنصار مِمَّن كان يُهل لمناة قالوا يا نبيء الله كُنا لا نطوف بين الصفا والمروة «تعظيماً لمناة».

السابقالتالي
2 3 4 5 6