الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ } * { ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } * { أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ }

عطف { ولنبلونكم } على قولهاستعينوا بالصبر والصلوة } البقرة 153 عَطْفَ المقصد على المقدمة كما أشرنا إليه قبل، ولك أن تجعل قوله { ونبلونكم } عطفاً على قولهولأُتم نعمتي عليكم } البقرة 150 الآيات ليُعلم المسلمين أن تمام النعمة ومنزلة الكرامة عند الله لا يحول بينهم وبين لحاق المصائب الدنيوية المرتبطة بأسبابها، وأن تلك المصائب مظهر لثباتهم على الإيمان ومحبة الله تعالى والتسليم لقضائه فينالون بذلك بهجة نفوسهم بما أصابهم في مرضاة الله ويزدادون به رفعة وزكاء، ويزدادون يقيناً بأن اتِّباعهم لهذا الدين لم يكن لنوال حُظوظ في الدنيا، وينجر لهم من ذلك ثواب، ولذلك جاء بعده { وبشر الصابرين } وجعل قولهيأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلٰوة } البقرة 153 الآية بين هذين المتعاطفين ليكون نصيحة لعلاج الأمرين تمام النعمة والهدى والابتلاء، ثم أعيد عليه ما يصير الجميع خبراً بقوله { وبشر الصابرين }. وجيءَ بكلمة شيءٍ تهويناً للخبر المفجع، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة، كما في قولهفأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون } النحل 112 ولذلك جاء هنا بكلمة شيءٍ وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن، وهو أن استعار لها اللباس الملازم لللاَّبس، لأن كلمة شيء من أسماء الأجناس العالية العامَّة، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة شيء قبل اسم ذلك الجنس إلاّ لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غَناءَها، فما ذكر كلمة شيء إلاّ والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع، فبقي له الدلالة على التحقير وهذا كقول السّريّ مخاطباً لأبي إسحاق الصابي
فشيئاً من دَمِ العُنْقُو دِ أَجعله مكان دَمي   
فقول الله تعالى { ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع } عُدول عن أن يقول بخوف وجوع أما لو ذكر لفظ شيء مع غير اسمِ جنسٍ كما إذا أُتبع بوصف أو لم يتبع أو أضيف لغير اسم جنس فهو حينئذٍ يدل على مطلق التنويع نحو قول قُحَيط العِجْلي
فلا تَطْمَعْ أَبَيْتَ اللعْنَ فيها ومَنْعُكها بشيء يستطاع   
فقد فسره المرزوقي وغيره بأن معنى بشيء بمَعْنًى من المعاني من غلبة أو معازَّةٍ أو فداء أو نحو ذلك اهــــ. وقد يكون بيان هذه الكلمة محذوفاً لدلالة المقام، كقوله تعالىفمن عفى له من أخيه شيء } البقرة 178 فهو الدية على بعض التفاسير أو هو العفو على تفسير آخر، وقول عمر بن أبي ربيعة
ومِنْ مالىءٍ عينيه من شيءٍ غيرهِ إذَا راح نحو الجمرَةِ البيضُ كالدمى   
أي من محاسن امرأة غير امرأته. وقول أبي حَيَّة النُّمَيْري
إذا ما تقاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ تَقاضَاه شيءٌ لا يَمَلُّ التقاضيا   

السابقالتالي
2 3