الرئيسية - التفاسير


* تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }

تشبيهن للعلتين من قولهولأتم } البقرة 150 وقولهولعلكم تهتدون } البقرة 150 أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد - صلى الله عليه وسلم - وجعل الإرسال مشبهاً به لأنه أسبق وأظهر تحقيقاً للمشبه أي إن المبادىء دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث " كما صليت على إبراهيم " ونكر رسول للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة، فالخطاب في قوله { فيكم } وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولاً بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيراً لهدايتهم، وهذا على نحو دعوة إبراهيمربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } البقرة 129 وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقولهلقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } آل عمران 164 أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } ولذلك علق بفعل { أرسلنا } حرفُ فِي ولم يعلَّق به حرف إلى كما في قولهإنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم } المزمل 15، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم، والمسلمون يومئذٍ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذٍ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمانَ الفارسي وبلال الحبشي وعبدِ الله بن سَلاَم الإسرائيلي، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده، ويدركون إعجاز القرآن، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم، وهذه المزية ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواتراً، ويسهل انتشاره سريعاً. والرسول المُرسَل فهو فَعُول بمعنى المفعول مثل ذَلول، وسيأتي الكلام عليه من جهة مطابقة موصوفة عند قوله تعالىفقولا إنا رسول رب العالمين } الشعراء 16 في سورة الشعراء. وقوله { يتلوا عليكم أياتنا } أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة، وقد تقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالىربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة } البقرة 129. وعبر بيتلو لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين. وقوله { ويزكيكم } الخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالاتٍ وطهاراتٍ تعترضُها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها، قال تعالى

السابقالتالي
2