{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ }. لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين{ آمنا } البقرة 14 وقولهم لشياطينهم{ إنا معكم } البقرة 14 الخ. يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومَن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله { الله يستهزىء بهم } غاية الفخامة والجزالة، وهو أيضاً واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف. وذكر { يستهزىءُ } دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم. ولأجل اعتبار الاستئناف قُدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي. ولم يقل يستهزىء اللَّهُ بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول مَن الذي يتولى مقابلة سُوء صنيعهم فأُعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصَر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } الحج 38 فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب «الكشاف» كما صَرح به في قوله تعالى{ والله يقدر الليل والنهار } في سورة المزمل 20، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزاً في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في الكشاف عند قوله تعالى{ فلا يخاف بخساً ولا رهقاً } في سورة الجن 13، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حملُ الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكتُ لا تتزاحم. كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ{ ليُخرجَن الأعزُّ منها الأَذَلَّ } المنافقون 8 فقال الله تعالى{ ولله العزة ولرسوله } المنافقون 8 فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوى إذ لا مقتضي له. وفعل { يستهزىء } المسند إلى الله ليس مستعملاً في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يُسمى بالاستهزاء بدليل قوله { ويمدهم في طغيانهم } ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزىء بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راضٍ عنهم أو أن أَصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلافَ ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم.